مصطفي كمال اتاتورك
صفحة 1 من اصل 1
مصطفي كمال اتاتورك
مصطفى كمال أتاتورك (1881-1938)
نشأته وولادته :
ولد في 19 مايو 1881م في مدينة سلانيك اليونانية ويطلق عليه الذئب الأغير .
اسم أتاتورك معناه أبو الأتراك .
نشأ أتاتورك في بداية حياته في مدرسة من المدارس الدينية المنتشرة في أرجاء السلطنة العثمانية وقتئذ ، ولكنه التحق بعدها بمدرسة أخرى ، ثم بالمدرسة العسكرية العليا عام 1893م .
وفي عام 1905م تخرج مصطفى كمال في الكلية العسكرية في اسطنبول برتبة نقيب أركان حرب وأُرسل إلى دمشق حيث بدأ مع العديد من زملائه بإنشاء خلية سرية أطلق عليها اسم « الوطن والحرية » لمحاربة الخلافة الإسلامية متمثلة في السلطنة العثمانية .
ولكنه اختار في الوقت ذاته أسلوبًا ماكرًا لكسب قلوب الناس واستمالتهم إليه ، فاجتهد في الحصول على الترقيات وأنواط الشرف وأوسمة النصر كقائد من قواد الجيش العثماني ، وذلك أمام بطولاته في كافة أركان الإمبراطورية العثمانية بما فيها ألبانيا وليبيا ، كما خدم فترة قصيرة كضابط أركان حرب في سالونيك واسطنبول وكملحق عسكري في صوفيا .
واجتهد أتاتورك في تكملة مسيرته ، فعندما شُنَّت حملة الدردنيل عام 1915م أصبح الكولونيل مصطفى كمال بطلًا وطنيًّا عندما حقق انتصارات متلاحقة وأخيرًا رد الغزاة ورُقِّي إلى رتبة جنرال عام 1916م وهو لا يبلغ من العمر سوى 35 سنة .
وفي نفس السنة قام بتحرير مقاطعتين رئيستين في شرق أنطاليا ، وفي السنتين التاليتين خدم كقائد للعديد من الجيوش العثمانية في فلسطين وحلب وحقق نصرًا رئيسيًا آخر عندما أوقف تقدم أعداء العثمانيين عند حلب .
وفي 19 مايو 1919 م نزل مصطفى كمال في ميناء البحر الأسود سامسون لبدء حرب أسماها « حرب الاستقلال » وهي في الحقيقة كانت المرة الأولى التي يسفر فيها أتاتورك عن وجهه الحقيقي ، ويكشف النقاب عن مخططه الخبيث ، حيث أعلن الحرب على الخلافة الإسلامية وفي تحدي لحكومة السلطان نظم جيش التحرير في الأناضول ، ونتيجة لذلك وفي 23 إبريل 1920م تأسس مجلس الأمة الكبير وانتخب مصطفى كمال لرئاسته ، وتم ترقيته إلى رتبة مارشال .
مؤامرته لإسقاط الخلافة :
واستطاع المارشال أتاتورك في صيف 1922م أن يطرد الجيوش البريطانية والفرنسية وجيوش الاحتلال الأخرى من الأراضي التركية ، فأكسبته هذه الانتصارات ذيعًا وشهرة كبيرة ملأت آفاق الدول الإسلامية ، لينظر له العالم الإسلامي على أنه البطل المسلم ، لا سيما وأنه استعان زورًا وبهتانًا بالرموز الدينية وعلماء الدين في حشد الناس للقتال معه ، وانهالت عليه برقيات التهاني من البلدان الإسلامية .
حتى أن رجلًا بحجم أمير الشعراء أحمد شوقي ليسطر قصيدة يصف فيها أتاتورك بأنه خالد الترك تيمنًا بخالد العرب وهو خالد بن الوليد ا وشتان ما بين الثرا والثريا ، فقال في قصيدته « تكليل أنقرة وعزل الأستانة » أبياته المشهورة :
الله أكبر كم في الفتح من عجبٍ
يا خالد الترك جدد خالد العربِ
وهي الأبيات التي رجع عنها شوقي لما فوجئ بخالد الترك يبدد آمال الترك ويضيع أمجاد العرب ، وذلك حينما أسقط الخلافة الإسلامية ، وأنشأ قائلًا :
الهـندُ والهــة ، ومـصر حزينـة
تـبكي عليك بمدمـع سحـاحِ
والشام تسأل والعراق وفارسٌ
أمَحـا من الأرض الخلافة مـاحٍ
وفي 1 نوفمبر 1922م تمَّ فصل الخلافة عن السلطة وألغيت السلطنة ، وبذلك تكون قد قطعت روابط الإدارة في الدولة العثمانية ، وتم قبول إدارة الجمهورية للبلاد في 13 أكتوبر 1923م ، وانتخب أتاتورك أول رئيسًا للجمهورية .
وفي 3 مارس 1924م ، وفي يوم لم يتمناه أي مسلم غيور على دينه ، ألغى مصطفى كمال الخلافة العثمانية ، والتي أسماها « هذا الورم من القرون الوسطى » ([1]) ،
وطرد الخليفة وأسرته من البلاد ، وكتب آخر فصول الخلافة الإسلامية التي استمرت من عهد النبوة وحتى أواسط العقد الثاني من القرن العشرين .
دور مدحت باشا في إسقاط الخلافة :
المؤامرة على تركيا الخلافة ؛ مؤامرة على الإسلام ، بدؤها مدحت ، ووسطها الاتحاديون ، وختامها أتاتورك .
إن الصورة التي رسمتها تلك الكتابات المسمومة لمدحت باشا كاذبة ومضللة ، فلم يكن مدحت بطلًا قوميًّا ولكنه كان واحدًا من قوى المؤامرة التي أعدت بإحكام للقضاء على الخلافة الإسلامية والدولة العثمانية ، وقد كان أمره مكشوفًا لدى السلطان عبد الحميد الذي كان قد وضع يده على مخطط الدونمة بالاشتراك مع أحرار الترك الذين كانوا قد جندوا لخطة إزالة الدولة العثمانية والخلافة الإسلامية من طريق الصهيونية بعد أن حققت قبل ذلك إزالة الجيتو بالثورة الفرنسية ، وما كان مدحت شهيدًا في الحقيقة ؛ لأن الشهادة لا تكون للخونة ، وما قتلوه في الحقيقة ، ولكنه قتل نفسه بخيانته لوطنه وللإسلام ، والعمل على تمكين اليهود من النفوذ ، وهو من الدونمة الذين دخلوا في الإسلام تقية لإخفاء هويتهم ، ولتدمير الدولة العثمانية من الداخل ، وكان يعمل بتوجيه من المتآمرين المقيمين في باريس ، والمتآمرين المقيمين في سالونيك ، ولم يكن الدستور الذي دعا إليه مدحت إلا محاولة لإخراج الدولة العثمانية من النظام الإسلامي والشريعة الإسلامية وتغليب نفوذ العناصر المعادية للإسلام ، وتمكينها من الانقضاض على الدولة .
وكان السلطان عبد الحميد يعلم مدى ما تهدف إليه المخططات الصهيونية ، ولقد شهد المؤرخون المنصفون بأن الدولة العثمانية الإسلامية قد تسامحت إلى أبعد حد مع العناصر غير الإسلامية ، ومكنتهم من أداء عباداتهم وإقامة شعائرهم ، وفتح المدارس وإقامة الجماعات إلى الحد الذي كان عاملًا من عوامل تمكنهم من التآمر على الدولة وإسقاطها ، ولقد كان السلطان عبد الحميد هو نقطة المؤامرة في الحقيقة لأنه وقف أمام مطامعهم وأهوائهم ، ورد « هرتزل » عن محاولاته ومؤامراته بالرد الحاسم وسمع من ممثل اليهود أن ذلك سيكلفه عرشه أو حياته فلم يتردد في تضحيته وقد كشف السلطان عبد الحميد في مذكراته دور الدونمة ورجال الاتحاد والترقي .
كيف كانت بدايات أتاتورك :
يقول الدكتور محمد حسين :
امتلأت قلوب المصريين حزنًا لمصير الآستانة ـ دار الخلافة ـ وقد احتلتها جيوش الأعداء ، وتقاسمها الإنجليز ، والفرنسيون ، والطليان ، وسيطروا فيها على كل شيء ، حتى أصبح الخليفة سجينًا أو كالسجين .
وتهدأ نفوس الناس ، ويستيقظ الأمل في قلوب كان يقتلها اليأس ، حين يترامى إليهم نبأ ثورة في الأناضول وتمردهم على قوات الاحتلال ورفضهم ما أملته على تركيا من شروط مذلة قاسية في معاهدة « سيفر » ، وتتعلق آمالهم بالبطل الشاب « مصطفى كمال » وهو يقود المتمردين في قتال يائس مع اليونان الذين انتشروا في قرى أزمير يدمرون كل ما يصل إلى أيديهم ولا يرعون لشيء حرمة ، وقد انفصل عن السلطة المركزية ، حيث يعيش « الخليفة » مغلوبًا على أمره في الآستانة ، واتخذ أنقرة مركزًا لحركته ، ودهش الناس حين رأوا هذا القتال اليائس ينقلب إلى انتصار يتلوه انتصار حتى تم إجلاء اليونان عن الأناضول كله في أواخر سنة 1922م ، بعد أن كبدهم خسائر فادحة .
وانشغلت الصحافة المصرية زمنًا طويلًا يقرب السنتين ، بالكلام عن هذا التطور الذي طرأ على الخلافة بتجريدها من السلطة ، واحتدمت المعركة حين قدم مصطفى صبري شيخ الإسلام في تركيا إلى مصر فارًا من الكماليين ، وأراد أن ينبه المصريين إلى ما يضمره هؤلاء للإسلام وشريعته وأهله ، وما ينطوون عليه من خبث وفساد الدين ، وأن الخلافة التي ابتدعوها مجردةً عن السلطة ليست من الإسلام في شيء ، وأن فصل الدين عن الدولة ليس إلا وسيلة للتخلص من سلطانه ، والتحرر من شريعته وقيوده ، وتجاوز حدوده ، وظن الناس وقتذاك أن الشيخ مدفوع في مهاجمته للكماليين ببغضه لهم ، بعد أن ألجأوه وألجأوا الخليفة إلى الفرار ، فهاجموه هجومًا عنيفًا تجاوز في كثير من الأحيان كل حدود الأدب ([2]) .
حقيقة المؤامرة على الخلافة الإسلامية :
يقول الأستاذ أنور الجندي : « إن أتاتورك في الحقيقة لم يكن مجاهدًا ولا مصلحًا ، وإنما كان تتمة الاتحاديين لقد أخروا دوره في المرحلة الأولى قبل الحرب ليتولى الدور الثاني .
فالاتحاديون أسقطوا الدولة العثمانية بأن أدخلوها الحرب لتصفي ماليتها ووجودها .
وجاء أتاتورك ليفرض عليها اللون الغربي ، وينقلها نقلة واسعة عن دولة الخلافة الإسلامية إلى دولة علمانية تكتب بالحروف اللاتينية ، ويقضي على الإسلام تمامًا ، ومعاهدته السرية المعروفة التي عرفت بمعاهدة لوزان تكشف ذلك في وضوح .
وقد استطاع أتاتورك إخفاء وجهه الحقيقي حتى يؤدي دوره كاملًا فخدع المسلمين في المرحلة الأولى بالصلاة وإمساك المصحف ، وطلب الدعاء منهم ، أما دوره في الجهاد في أزمير فقد كشفت الوثائق أنه كان زائفًا ، وأن غيره هو الذي قام بدور البطولة ، وأنه استلب منهم هذا المجد وحطمهم ونسبه إلى نفسه .
ولقد كان أتاتورك عميلًا غربيًا كاملًا ، وعميلًا صهيونيًا أصيلًا ، وقد أدى دوره تمامًا ، وأقام تلك التجربة المظلمة المريرة التي تركت آثارها من بعد على العالم الإسلامي كله ، والتي كشفت الأحداث في الأخير فسادها ، وتبرأ الأتراك المسلمون من تبعتها ، وكانت ظاهرة عودتهم إلى الأصالة مرة أخرى دليل على أنها كانت تجربة زائفة مضادة للفطرة ولطبائع الأشياء ، والدليل إن المسلمين لم يتقبلوها بل رفضوها ، وقد كشف أكثر من مستشرق وفي مقدمتهم « هاملتون جب » أن العرب لن يقعوا في براثن هذه التجربة التي خرجت بهم عن الأصالة وعن الذاتية الإسلامية .
ولقد كان من أكبر معالم اضطراب كمال أتاتورك أنه عندما أحس بدنو أجله أن دعا السفير البريطاني ليتولى بدلًا منه رئاسة الدولة التركية ، كعلامة من علامات الخسة والنذالة والخيانة !!
وقد صفع المؤرخ العالمي أرنولد توينبي التجربة الكمالية التي يفخرون بها ويمجدونها الآن بعد أن رفضها أهلها وحكموا بفسادها ، يقول توينبي : إن الأتراك كانوا عالة على الحضارة الغربية ، وأنهم تغربوا ولم يقدموا أي شيء إلى هذه الحضارة فكانوا عاجزين عن الإبداع في أي مجال من مجالات الإنتاج .
والواقع أن مصطفى كمال أتاتورك لم يكن يدعي المدعون شيئًا جديدًا ، ولكنه كان حلقة في المؤامرة التي بدأها مدحت ، وكان وسطها رجال الاتحاد والترقي للقضاء على السلطان والدولة العثمانية ، ثم ختمها أتاتورك بالقضاء على الخلافة الإسلامية ، ولا ريب أن انتقاص قدر الدولة العثمانية وحكامها مجاف لواقع التاريخ ، وهو من عمل أتباع التغريب والشعوبية ، وقد جرى ضمن مخطط يرمي إلى إثارة الخلافات والخصومة بين عناصر الأمة الإسلامية ، وكان دعوة للوقيعة بين العرب والترك والفرس ، وهم عناصر الأمة الواحدة التي جمعها القرآن وقادها محمد غ وآمن بأنه لا إله إلا الله مهما كانت هناك خلافات فرعية فإنهم جميعًا أمة واحدة ، ولو كان هناك قليل من الإنصاف والأمانة التاريخية لدي كتابنا المزيفين لراجع الكاتب ما كتبه استيورت وهو غربي في كتابه « حاضر العالم الإسلامي قبل أربعين عامًا » وكيف تحدث عن عظمة الدولة العثمانية ودورها الذي قامت به في وجه الصليبية الغربية .
أما صيحة العناصر والأجناس التي حاول كاتب أخبار اليوم أن يجعلها قضية فإنها لم تكن كذلك في ذلك الوقت ، وإنما هي المؤامرة التي عند النفوذ الأجنبي بها إلى استغلال صيحة القوميات لتفكيك عرى الدولة العثمانية ، أما المسلمون فلم يكونوا يعرفون مصرية وسورية وجزائرية وغيرها ولا كلمة العروبة نفسها ، ولكنهم كانوا مسلمين فحسب ، وإنما ظهرت هذه الدعوات إلى الإقليميات والقوميات وبتحريض عناصر غير مخلصة لتفكيك عرى الوحدة ، وهدم هذه الجامعة الإسلامية التي كان الغرب يخشاها ، ولإقامة قومية زائفة هي القومية الصهيونية .
ولا ريب أن الأسلوب الذي اتخذ في إسقاط السلطان عبد الحميد هو أسلوب لم يعرفه النظام الإسلامي في تاريخه كله وهو من صنع المؤامرة الصهيونية التلمودية التي استطاعت أن تحمي وتحرك هذا الخداع عن طريق قوة عسكرية تتحرك هاتفة باسم السلطان خدعة ثم تكون في نفس الوقت متآمرة عليه لخدمة هدف غامض على كل الذين قاموا به ، ولا يعرفه إلا القليل وهو إعادة اليهود إلى فلسطين .
كذلك فإن ما قام به أتاتورك لم يكن نصرًا عسكريًا أو سياسيًا وإنما كان هناك إشارة بقبول التوجيه الغربي ، وتوقيع ملحق معاهدة لوزان وهو الذي فتح الطريق إلى كل شيء ، وبه حلت جميع المشاكل ، وانسحبت كل الجيوش ، وتحقق ما يسمى النصر والاستقلال ، وكتبت على أثر ذلك آلاف الكتب في تمجيد البطل الذي لم يكن إلا عميلًا من عملاء الخيانة لحساب الصهيونية العالمية والنفوذ الغربي والشيوعية أيضًا ، فإن الشيوعيين هم أول من عاونه لقاء موقفه من عداء الإسلام » .
كراهيته للشريعة ومحاربته لها :
لقد كانت كراهية أتاتورك للإسلام وشريعته واضحة حتى قبل أن يُسقط الخلافة رسميًا ، فكما يقول أرمسترونج : « ولقد طالما أوضح لأصدقائه أنه يرى وجوب اقتلاع الدين من تركيا » ([3]) .
وفي نفس السياق يقول جورج حداد : « كان التحديث بالنسبة له ـ أي أتاتورك ـ يعني أن يتم بتغريب وعلمنة المجتمع التركي وتحرير القطر من تأثير الإسلام والشرق ومن مظاهر الثقافة العربية » ([4]) .
تنفيذ أتاتورك لمخططات غربية :
ونفَّذ مصطفى كمال أتاتورك مخططًا مرسومًا له في المعاهدات التي عُقدت مع الدول الغربية ، فقد فرضت معاهدة لوزان سنة 1340هـ /1923م على تركيا شروطًا عُرفت بشروط « كرزون » الأربع ، نسبة إلى رئيس الوفد الإنجليزي في مؤتمر لوزان ([5]) .
أتاتورك واتفاقية كرزن :
وتمت صناعة البطل بنجاح باهر ووقف يتحدى الحلفاء وألقى باليونان في البحر ، ولم ير الحلفاء بدًا من التفاوض معه ! وكانت ثمرة المفاوضات هي : الاتفاقية المعروفة باتفاقية « كيرزن » عام 1923م ذات الشروط الأربعة :
1- إلغاء الخلافة الإسلامية نهائيًا من تركيا .
2- أن تقطع تركيا كل صلة مع الإسلام .
3- أن تضمن تركيا تجميد وشل حركة جميع العناصر الإسلامية الباقية في تركيا .
4- أن يستبدل الدستور العثماني القائم على الإسلام بدستور مدني بحت .
ويصف المؤرخ « أرمسترونج » خطوات تنفيذ الاتفاقية قائلًا :
« انطلق كمال أتاتورك يكمل عمل التحطيم الشامل الذي شرع فيه وقد قرر أنه يجب عليه أن يفصل تركيا عن ماضيها المتعفن الفاسد ، يجب عليه أن يزيل جميع الأنقاض التي تحيط بها ، هو حكم فعلًا النسيج السياسي القديم ، ونقل السلطنة إلى ديموقراطية ، وحول الإمبراطورية إلى قطر فحسب ، وجعل الدولة الدينية جمهورية عادية ، إنه طرد السلطان « الخليفة » وقطع جميع الصلات عن الإمبراطورية العثمانية ، وقد بدأ الآن في تغيير عقلية الشعب بكاملها وتصوراته القديمة وعاداته ولباسه وأخلاقه وتقاليده وأساليب الحديث ومناهج الحياة المنزلية التي تربطه بالماضي » ([6]) .
ومن ثم أقحمت تركيا في عمليات تغريب بشعة ، شملت جميع مناحي الحياة بلا استثناء يذكر ، أراد من خلالها أتاتورك أن يجعل تركيا العلمانية مثالًا يحتذي به الآخرون في التحرر والانفلات من شرع الله ، وكان لذلك مظاهر عدة كما يلي :
1- المساجد والمؤسسات الدينية :
حيث أُلغيت وزارة الأوقاف سنة 1343هـ /1924م ، وعُهد بشؤونها إلى وزارة المعارف ، وفي عام 1344هـ /1925م أُغلقت المساجد وقضت الحكومة في قسوة بالغة على كل تيار ديني وواجهت كل نقد ديني متهمة إياه بإثارة العنف والبلبلة والفوضى .
وفي عام ( 1350-1351هـ /1931-1932م ) حُدد عدد المساجد ولم يسمح بغير مسجد واحد في كل دائرة من الأرض يبلغ محيطها 500 متر وأعلن أن الروح الإسلامية تعوق التقدم .
وتمادى مصطفى كمال في تهجمه على المساجد فخَفَّض عدد الواعظين الذين تدفع لهم الدولة أجورهم إلى ثلاثمائة واعظ ، وأمرهم أن يفسحوا في خطبة الجمعة مجالًا واسعًا للتحدث عن الشؤون الزراعية والصناعية وساسة الدولة وكيل المديح له .
وأغلق أشهر جامعين في اسطنبول فحوَّل أولهما وهو مسجد آيا صوفيا إلى متحف ، وحوَّل ثانيهما وهو مسجد الفاتح إلى مستودع .
2- القوانين والتشريعات الإسلامية :
أما الشريعة الإسلامية فقد استبدلت وحل محلها قانون مدني أخذته حكومة تركيا عن القانون السويسري عام 1345هـ /1926م ، وغيرت التقويم الهجري واستخدمت التقويم الجريجوري الغربي ، فأصبح عام 1342هـ ملغيًّا في كل أنحاء تركيا وحل محله عام 1926م .
وفي دستور عام 1347هـ /1928م أغفل النص على أن تركيا دولة إسلامية ، وغيَّر نص القَسَم الذي يُقسمه رجال الدولة عند توليهم لمناصبهم ، فأصبحوا يقسمون بشرفهم على تأدية الواجب بدلًا من أن يحلفوا بالله كما كان عليه الأمر من قبل .
3- الحياة الاجتماعية :
وفي عام 1935م غيَّرت الحكومة العطلة الرسمية فلم يعد الجمعة ، بل أصبحت العطلة الرسمية للدولة يوم الأحد ، وأصبحت عطلة نهاية الأسبوع تبدأ من ظهر يوم السبت وتستمر حتى صباح يوم الاثنين .
وأمعنت حكومة مصطفى كمال في حركة التغريب فأصدرت قرارًا بإلغاء لبس الطربوش وأمرت بلبس القبعة تشبهًا بالدول الأوروبية ([7]) .
وأخذ أتاتورك ينفخ في الشعب التركي روح القومية ، واستغل ما نادى به بعض المؤرخين من أن لغة السومريين أصحاب الحضارة القديمة في بلاد ما بين النهرين كانت ذات صلة باللغة التركية .
وعملت حكومته على الاهتمام بكل ما هو أوروبي فازدهرت الفنون وأقيمت التماثيل لأتاتورك في ميادين المدن الكبرى كلها ، وزاد الاهتمام بالرسم والموسيقى ووفد إلى تركيا عدد كبير من الفنانين أغلبهم من فرنسا والنمسا .
وعملت حكومته على إلغاء حجاب المرأة وأمرت بالسفور ، وألغي قوامة الرجل على المرأة وأطلق لها العنان باسم الحرية والمساواة وشجع حفلات الراقصة والمسارح المختلطة والرقص .
وأمر بترجمة القرآن إلى اللغة التركية ففقد كل معانيه ومدلولاته ، وأمر أن يكون الأذان باللغة التركية .
4- الحياة التعليمية والثقافية :
وأهملت الحكومة التعليم الديني في المدارس الخاصة ، ثم تم إلغاءه بل أن كلية الشريعة في جامعة استانبول بدأت تقلل من أعداد طلابها ، ثم ما لبثت أن أُغلقت عام 1352هـ /1933م .
وفي عام 1348هـ /1929م بدأت الحكومة تفرض إجباريًا استخدام الأحرف اللاتينية في كتابة اللغة التركية بدلًا من الأحرف العربية ، وبدأت الصحف والكتب تصدر بالأحرف اللاتينية وحذفت من الكليات التعليم باللغة العربية واللغة الفارسية ، وحُرِّمَ استعمال الحرف العربي لطبع المؤلفات التركية .
وأما الكتب التي سبق لمطابع استانبول أن طبعتها في العهود السالفة ، فقد صدرت إلى مصر ، وفارس ، والهند ، وهكذا قطعت حكومة تركيا كل ما بين تركيا وماضيها الإسلامي من ناحية ، وما بينها وبين المسلمين في سائر البلدان العربية والإسلامية من ناحية أخرى ([8]) .
عمل على تغيير المناهج الدراسية وأعيد كتابة التاريخ من أجل إبراز الماضي التركي القومي ، وجرى تنقية اللغة التركية من الكلمات العربية والفارسية ، واستبدلت بكلمات أوروبية أو حثية قديمة .
استبداله القوانين الشرعية بقوانين أوروبية :
قال الدكتور محمد حسين في الاتجاهات الوطنية :
نصب مصطفى كمال نفسه إلهًا من دون الله يشرع للأمة كما يشاء ، فلفق قانونًا فريدًا يتكون أكثر من القانون السويسري والقانون الإيطالي وغيرهما وأكمل الباقي من عنده ، ومع ذلك فهو يدعي أنه كله من عنده قائلًا :
« نحن لا نريد شرعًا فيه قال وقالوا ولكن شرعًا فيه قلنا ونقول » ([9]) .
ويصف أحد الكتاب الغربيين جلسة في مجلس النواب فيقول أن مصطفى كمال وقف قائلًا :
« إن التشريع والقضاء في أمة عصرية يجب أن يكونا عصريين مطابقين لأحوال الزمان لا للمبادئ والتقاليد » .
ثم اقتفاه وزير العدل شارحًا ومفسرًا :
« إن الشعب التركي جدير بأن يفكر بنفسه بدون أن يتقيد بما فكر غيره من قبله ، وقد كان كل مادة من مواد كتبنا القضائية مبدوءة بكلمة قال المقدسة ، فأما الآن فلا يهمنا أصلًا ماذا قالوا في الماضي بل يهمنا أن نفكر نحن ونقول نحن » ([10]) .
ويعترض عليه مرة أحد القانونيين بقوله :
« إن هذا النظام الذي تريدون وضعه لا يوجد في أي كتاب للقانون » .
فيتلقى الجواب التالي :
« إن النظم ليست إلا أشياء وأمورًا تكيف ومرت من التجارب ، على أن أنفذ ما أريد وعليكم أن تدرجوا ما أعمل في الكتب !! » ([11]) .
ونتيجة التطرف والغلو المفرط والأعمال التي لا مبرر لها إلا تنفيس الحقد الأوروبي على الإسلام ومركب النقص الذي كان يستشعره الكماليون ، اتخذت تركيا المتعلمنة تدبيرات وإجراءات غربية حقًا :
فقد ألغت بالعنف والإرهاب الكتابة التركية بالأحرف العربية ثم تجرأت فحرمت الأذان بالعربية ، وكتبت المصحف أو ترجمته بلغتها الهجين ، وحددت عدد المساجد وأقفلت كثيرًا منها أو حولته إلى ما لا يتفق وقداسته كما فعلت بجامع أيا صوفيا ، وألغت وزارة الأوقاف ، وفرضت بقوة السلاح المسخ الفكري وحتى المظهري على الأمة لا سيما معركة القبعة الأوروبية التي سالت لأجلها الدماء ، وألغيت الأعياد الإسلامية ، وحطمت بصورة استبدادية مظاهر الحشمة والحياء الإسلامية ، فأكرهت النساء على تقليد المرأة الغربية في كل شيء وحاربت بشدة صارمة كل من اعترض طريقها من المتورعين وحتى المعتدلين شيئًا ما من الكماليين .
ولذلك فإن حكومة تركيا العلمانية الكمالية ـ هي كما وصفها الأمير شكيب أرسلان ـ ليست حكومة دينية من طراز فرنسا وإنجلترا فحسب ، بل هي دولة مضادة للدين كالحكومة البلشيفية في روسيا سواء بسواء ، إذ أنه حتى الدولة اللا دينية في الغرب بثوراتها المعروفة لم تتدخل في حروف الأناجيل وزي رجال الدين وطقوسهم الخاصة وتلغى الكنائس .
والحقيقة المرة أن مصطفى كمال قد خلق نموذجًا صارخًا للحكام في العالم الإسلامي ، وكان لأسلوبه الاستبدادي الفذ أثره في سياسات من جاء بعده منهم ، كما أنه أعطى الاستعمار الغربي مبررًا كافيًا للقضاء على الإسلام ، فإن فرنسا مثلًا بررت تنصير المغرب العربي وفرنجتها بأنه لا يجب عليها أن تحافظ على الإسلام أكثر من الأتراك المسلمين أنفسهم !!
وليس أعجب من هذا الرجل وزمرته إلا من ينادون اليوم من الزعماء بإقامة حكومات علمانية في بلادهم ويقولون : أن مصطفى كمال هو قائدهم الروحي .
انتشار الفقر نتيجة للبعد عن شرع الله :
وتشربت تلك الأحلام الوردية التي طالما خدع بها الشعب التركي ، وجاءت النتيجة واضحة صريحة ، كما عبر عنها أرمسترونج فقال : « كان الفقر يعم كل مكان ، والأيام الذهبية التي وعد الشعب بها بعد طرد الأعداء قد تمخضت عن أيام أسوأ من أيام السلطان عبد الحميد ذاته ، فقد عز الطعام وتفاقم الغلاء وشحت النقود ، بل شحت البضائع الضرورية واختفت من الأسواق وثقلت الضرائب وازداد جشع جباتها وجند الشباب جميعًا في الجيش برغم انتهاء الحرب ، فانهارت البيوت والمزارع على أصحابها ، وماتت الماشية لقلة العلف ، وأتلف الجدب الحاصلات الزراعية ، وصارت الحياة عبئًا لا يطاق بعد أن بلغت الفاقة والعوز حدًّا لم يسمع بمثله من قبل » ([12]) .
تأثير حركة أتاتورك على العالم الإسلامي :
يقول الدكتور محمد حسين :
وقد كان لهذه الحركة التي تعتمد على التأويل والتي تدعو إلى تطوير الشريعة بما يناسب ظروف الزمان والمكان وبما يساير الحضارة الغربية مظاهر كثيرة ، ربما كان أبرزها الدعوة إلى ما يسمَّى « تحرير المرأة » ، والدعوة إلى تعديل قانون الأحوال الشخصية فيما يتصل بها ، بتقييد تعدد الزوجات ، وتقييد الطلاق ، ومساواة المرأة بالرجل في الميراث ([13]) ،
وكان من مظاهرها كذلك تشدد الناس في الأخذ ببعض أحكام الإسلام ، وتساهلهم في الأخذ ببعضها الآخر ، مسايرةً للزمان ، وربما وجدوا من علماء الدين ، وممن يُدخلون أنفسهم فيهم ، من يفتيهم بما يلائم هواهم ، وربما وَصَفوا أمثال هؤلاء بسعة الأفق أو بمرونة التفكير أو التحرر أو التقدمية ، وربما وصفوا الذين يتمسكون بالشرع لا يتزحزحون عن أحكامه ولا يجعلونه تبعًا للشهوات والأهواء بالتزمت والجمود والرجعية ﴿ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ﴾ على أن الذين لا شك فيه هو أن التشدد في الأخذ ببعض أحكام الدين ، والتساهل في الأخذ ببعضها الآخر ، يَرُدّ الناس إلى مثل حال اليهود الذين قال فيهم الله ـ : ﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ﴾ ، وهو على كل حال لونٌ من ألوان تطوير الإسلام وحمله على التشكل بالحياة ([14]) .
وكان أكثر مظاهر هذه الحركة تطرفًا ما كانت ترويه الصحف عما يجري في تركيا باسم تجديد الإسلام ، في عهد الاتحاديين ثم في عهد الكماليين ، أو الإسلام الجمهوري كما سمته بعض الصحف ، فمن أمثلة ذلك ما ذكرته صحيفة المنار عن بعض ما جاء في كتاب « قوم جديد » التركي ، من اعتبار الصيام والصلاة والحج والزكاة والعمل بكتب فقه الأئمة الأربعة هو دين قدماء المسلمين الذين يعبر عنهم بكلمة « قوم عتيق » ، ووضعهم في مقابل ذلك أركان دين « قوم جديد » وهي : العقل ، وكلمة الشهادة ، والأخلاق الجهاد ( تحت إمرة أنور ، ورضا ، وأسعد ، وجاويد ، ورءوف صلى الله تعالى عليهم ، وبقية رجال جمعية الاتحاد والترقي المقدسة ) ([15]) .
أمثلة من زندقة أتاتورك وخبث طويته :
قال هذا الزنديق في افتتاح البرلمان التركي عام 1923م :
« نحن الآن في القرن العشرين لا نستطيع أن نسير وراء كتاب تشريع يبحث عن التين والزيتون » ([16]) .
عدوه الأكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم :
كان أتاتورك في فندق « بارك » وكان المؤذن يرفع الأذان في المسجد الصغير الكائن أمام الفندق مباشرة ، يلتفت أتاتورك لمن حوله قائلًا :
« من قال بأننا مشهورون ؟ وما شهرتنا نحن ؟ انظروا إلى هذا الرجل كيف أنه وضع اسمًا وشهرة بحيث أن اسمه يتكرر في كل لحظة ، وفي جميع أنحاء العالم إذا أخذنا فرق الساعات بنظر الاعتبار ؛ ليهدموا هذه المنارة » .
قال أحمد شوقي في رثاء الخلافة الإسلامية :
أفتى خُزْعبــلة وقــال ضلالـــة
وأتى بكفـــر في الـــبلاد بُــواح
فلتسمــعنَّ بكــل أرض داعيــًا
يدعــو إلى الكــذاب أو لسجاحِ
ولتشهـــدن بكـل أرض فتنـــة
فيهــا يُبــاع الديــن بيع ســماح
يُفتــى على ذهبِ المُــعزِّ وسيفـه
وهوى النفوس وحقدها الملحاحِ
استبدال الحروف العربية باللاتينية :
قال محمد حسين :
جاء مصطفى كمال فحَمَل الناس في تركيا على ما حملَهم عليه من الأضاليل ، وكان في جملة ما سامهم من الأباطيل استبدالُ الحروف اللاتينية بالحروف العربية ، فتجدد كلام الناس في إصلاح الخط وخاضت الصحف فيه ، وكان أعجب ما ظهر في ذلك المشروع الذي تقدم به شيخ من شيوخ مجمع اللغة العربية في مختتم هذه الفترة التي نؤرخها ، واقترح فيه اتخاذ الحروف اللاتينية للكتابة العربية ([17]) .
وقال مبارك عبد الله :
إن الوقفة التاريخية حول بدء الدعوة إلى استبدال الحرف اللاتيني بالحرف العربي تبين أن جذورها تعود إلى أواسط القرن الماضي ، حيث نجحت هذه الدعوة في دفع أتاتورك في تركيا إلى تحويل الحرف العربي إلى الحرف اللاتيني ، كما نجحت أيضًا في بعض الدول الإسلامية الأخرى مثل ماليزيا وإندونسيا اللتين كانتا تعتمدان الحروف العربية في الكتابة ، ومثل ألبانيا والبوسنة ونيجيريا التي نجح الإنجليز في نقل حروف اللغات المحلية فيها من العربية إلى اللاتينية ، وقُطعت صلة هذه الدولة بتاريخها العربي عبر القضاء على آثارها العملية القديمة .
وفاته :
توفي في 10 نوفمبر 1938 بعد معاناة شديدة مع أمراض عدة أصابته ، حيث نشرت الوثيقة الطبية الخاصة به قبل وفاته والتي أعلنت أن مصطفى كمال أتاتورك قد أصيب في شبابه بمرض السيلان الذي لم يكن له علاج أكيد في ذلك الوقت ، ثم أصيب بمرض عضال في الكلية سنة 1917 لم يعرف ماهيته .
وكان يتعرض لآلام مبرحة مزمنة لا تطاق ، كانت السبب في إدمانه على شرب الخمر ؛ مما أدى إلى إصابته بتليف الكبد والتهاب في أعصابه الطرفية ، وتعرضه لحالات من الكآبة والانطواء وتدهور في المستويات العليا في المخ ([18]) .
ورحل أتاتورك عن الدنيا غير مأسوف عليه ، فقد عاش خائنًا لدينه وأمته وعقيدته ، ومات على ذلك ، بعد أن أجرم في حق الأمة الجريمة الكبرى .
منقول من
مختارات سلفية
نشأته وولادته :
ولد في 19 مايو 1881م في مدينة سلانيك اليونانية ويطلق عليه الذئب الأغير .
اسم أتاتورك معناه أبو الأتراك .
نشأ أتاتورك في بداية حياته في مدرسة من المدارس الدينية المنتشرة في أرجاء السلطنة العثمانية وقتئذ ، ولكنه التحق بعدها بمدرسة أخرى ، ثم بالمدرسة العسكرية العليا عام 1893م .
وفي عام 1905م تخرج مصطفى كمال في الكلية العسكرية في اسطنبول برتبة نقيب أركان حرب وأُرسل إلى دمشق حيث بدأ مع العديد من زملائه بإنشاء خلية سرية أطلق عليها اسم « الوطن والحرية » لمحاربة الخلافة الإسلامية متمثلة في السلطنة العثمانية .
ولكنه اختار في الوقت ذاته أسلوبًا ماكرًا لكسب قلوب الناس واستمالتهم إليه ، فاجتهد في الحصول على الترقيات وأنواط الشرف وأوسمة النصر كقائد من قواد الجيش العثماني ، وذلك أمام بطولاته في كافة أركان الإمبراطورية العثمانية بما فيها ألبانيا وليبيا ، كما خدم فترة قصيرة كضابط أركان حرب في سالونيك واسطنبول وكملحق عسكري في صوفيا .
واجتهد أتاتورك في تكملة مسيرته ، فعندما شُنَّت حملة الدردنيل عام 1915م أصبح الكولونيل مصطفى كمال بطلًا وطنيًّا عندما حقق انتصارات متلاحقة وأخيرًا رد الغزاة ورُقِّي إلى رتبة جنرال عام 1916م وهو لا يبلغ من العمر سوى 35 سنة .
وفي نفس السنة قام بتحرير مقاطعتين رئيستين في شرق أنطاليا ، وفي السنتين التاليتين خدم كقائد للعديد من الجيوش العثمانية في فلسطين وحلب وحقق نصرًا رئيسيًا آخر عندما أوقف تقدم أعداء العثمانيين عند حلب .
وفي 19 مايو 1919 م نزل مصطفى كمال في ميناء البحر الأسود سامسون لبدء حرب أسماها « حرب الاستقلال » وهي في الحقيقة كانت المرة الأولى التي يسفر فيها أتاتورك عن وجهه الحقيقي ، ويكشف النقاب عن مخططه الخبيث ، حيث أعلن الحرب على الخلافة الإسلامية وفي تحدي لحكومة السلطان نظم جيش التحرير في الأناضول ، ونتيجة لذلك وفي 23 إبريل 1920م تأسس مجلس الأمة الكبير وانتخب مصطفى كمال لرئاسته ، وتم ترقيته إلى رتبة مارشال .
مؤامرته لإسقاط الخلافة :
واستطاع المارشال أتاتورك في صيف 1922م أن يطرد الجيوش البريطانية والفرنسية وجيوش الاحتلال الأخرى من الأراضي التركية ، فأكسبته هذه الانتصارات ذيعًا وشهرة كبيرة ملأت آفاق الدول الإسلامية ، لينظر له العالم الإسلامي على أنه البطل المسلم ، لا سيما وأنه استعان زورًا وبهتانًا بالرموز الدينية وعلماء الدين في حشد الناس للقتال معه ، وانهالت عليه برقيات التهاني من البلدان الإسلامية .
حتى أن رجلًا بحجم أمير الشعراء أحمد شوقي ليسطر قصيدة يصف فيها أتاتورك بأنه خالد الترك تيمنًا بخالد العرب وهو خالد بن الوليد ا وشتان ما بين الثرا والثريا ، فقال في قصيدته « تكليل أنقرة وعزل الأستانة » أبياته المشهورة :
الله أكبر كم في الفتح من عجبٍ
يا خالد الترك جدد خالد العربِ
وهي الأبيات التي رجع عنها شوقي لما فوجئ بخالد الترك يبدد آمال الترك ويضيع أمجاد العرب ، وذلك حينما أسقط الخلافة الإسلامية ، وأنشأ قائلًا :
الهـندُ والهــة ، ومـصر حزينـة
تـبكي عليك بمدمـع سحـاحِ
والشام تسأل والعراق وفارسٌ
أمَحـا من الأرض الخلافة مـاحٍ
وفي 1 نوفمبر 1922م تمَّ فصل الخلافة عن السلطة وألغيت السلطنة ، وبذلك تكون قد قطعت روابط الإدارة في الدولة العثمانية ، وتم قبول إدارة الجمهورية للبلاد في 13 أكتوبر 1923م ، وانتخب أتاتورك أول رئيسًا للجمهورية .
وفي 3 مارس 1924م ، وفي يوم لم يتمناه أي مسلم غيور على دينه ، ألغى مصطفى كمال الخلافة العثمانية ، والتي أسماها « هذا الورم من القرون الوسطى » ([1]) ،
وطرد الخليفة وأسرته من البلاد ، وكتب آخر فصول الخلافة الإسلامية التي استمرت من عهد النبوة وحتى أواسط العقد الثاني من القرن العشرين .
دور مدحت باشا في إسقاط الخلافة :
المؤامرة على تركيا الخلافة ؛ مؤامرة على الإسلام ، بدؤها مدحت ، ووسطها الاتحاديون ، وختامها أتاتورك .
إن الصورة التي رسمتها تلك الكتابات المسمومة لمدحت باشا كاذبة ومضللة ، فلم يكن مدحت بطلًا قوميًّا ولكنه كان واحدًا من قوى المؤامرة التي أعدت بإحكام للقضاء على الخلافة الإسلامية والدولة العثمانية ، وقد كان أمره مكشوفًا لدى السلطان عبد الحميد الذي كان قد وضع يده على مخطط الدونمة بالاشتراك مع أحرار الترك الذين كانوا قد جندوا لخطة إزالة الدولة العثمانية والخلافة الإسلامية من طريق الصهيونية بعد أن حققت قبل ذلك إزالة الجيتو بالثورة الفرنسية ، وما كان مدحت شهيدًا في الحقيقة ؛ لأن الشهادة لا تكون للخونة ، وما قتلوه في الحقيقة ، ولكنه قتل نفسه بخيانته لوطنه وللإسلام ، والعمل على تمكين اليهود من النفوذ ، وهو من الدونمة الذين دخلوا في الإسلام تقية لإخفاء هويتهم ، ولتدمير الدولة العثمانية من الداخل ، وكان يعمل بتوجيه من المتآمرين المقيمين في باريس ، والمتآمرين المقيمين في سالونيك ، ولم يكن الدستور الذي دعا إليه مدحت إلا محاولة لإخراج الدولة العثمانية من النظام الإسلامي والشريعة الإسلامية وتغليب نفوذ العناصر المعادية للإسلام ، وتمكينها من الانقضاض على الدولة .
وكان السلطان عبد الحميد يعلم مدى ما تهدف إليه المخططات الصهيونية ، ولقد شهد المؤرخون المنصفون بأن الدولة العثمانية الإسلامية قد تسامحت إلى أبعد حد مع العناصر غير الإسلامية ، ومكنتهم من أداء عباداتهم وإقامة شعائرهم ، وفتح المدارس وإقامة الجماعات إلى الحد الذي كان عاملًا من عوامل تمكنهم من التآمر على الدولة وإسقاطها ، ولقد كان السلطان عبد الحميد هو نقطة المؤامرة في الحقيقة لأنه وقف أمام مطامعهم وأهوائهم ، ورد « هرتزل » عن محاولاته ومؤامراته بالرد الحاسم وسمع من ممثل اليهود أن ذلك سيكلفه عرشه أو حياته فلم يتردد في تضحيته وقد كشف السلطان عبد الحميد في مذكراته دور الدونمة ورجال الاتحاد والترقي .
كيف كانت بدايات أتاتورك :
يقول الدكتور محمد حسين :
امتلأت قلوب المصريين حزنًا لمصير الآستانة ـ دار الخلافة ـ وقد احتلتها جيوش الأعداء ، وتقاسمها الإنجليز ، والفرنسيون ، والطليان ، وسيطروا فيها على كل شيء ، حتى أصبح الخليفة سجينًا أو كالسجين .
وتهدأ نفوس الناس ، ويستيقظ الأمل في قلوب كان يقتلها اليأس ، حين يترامى إليهم نبأ ثورة في الأناضول وتمردهم على قوات الاحتلال ورفضهم ما أملته على تركيا من شروط مذلة قاسية في معاهدة « سيفر » ، وتتعلق آمالهم بالبطل الشاب « مصطفى كمال » وهو يقود المتمردين في قتال يائس مع اليونان الذين انتشروا في قرى أزمير يدمرون كل ما يصل إلى أيديهم ولا يرعون لشيء حرمة ، وقد انفصل عن السلطة المركزية ، حيث يعيش « الخليفة » مغلوبًا على أمره في الآستانة ، واتخذ أنقرة مركزًا لحركته ، ودهش الناس حين رأوا هذا القتال اليائس ينقلب إلى انتصار يتلوه انتصار حتى تم إجلاء اليونان عن الأناضول كله في أواخر سنة 1922م ، بعد أن كبدهم خسائر فادحة .
وانشغلت الصحافة المصرية زمنًا طويلًا يقرب السنتين ، بالكلام عن هذا التطور الذي طرأ على الخلافة بتجريدها من السلطة ، واحتدمت المعركة حين قدم مصطفى صبري شيخ الإسلام في تركيا إلى مصر فارًا من الكماليين ، وأراد أن ينبه المصريين إلى ما يضمره هؤلاء للإسلام وشريعته وأهله ، وما ينطوون عليه من خبث وفساد الدين ، وأن الخلافة التي ابتدعوها مجردةً عن السلطة ليست من الإسلام في شيء ، وأن فصل الدين عن الدولة ليس إلا وسيلة للتخلص من سلطانه ، والتحرر من شريعته وقيوده ، وتجاوز حدوده ، وظن الناس وقتذاك أن الشيخ مدفوع في مهاجمته للكماليين ببغضه لهم ، بعد أن ألجأوه وألجأوا الخليفة إلى الفرار ، فهاجموه هجومًا عنيفًا تجاوز في كثير من الأحيان كل حدود الأدب ([2]) .
حقيقة المؤامرة على الخلافة الإسلامية :
يقول الأستاذ أنور الجندي : « إن أتاتورك في الحقيقة لم يكن مجاهدًا ولا مصلحًا ، وإنما كان تتمة الاتحاديين لقد أخروا دوره في المرحلة الأولى قبل الحرب ليتولى الدور الثاني .
فالاتحاديون أسقطوا الدولة العثمانية بأن أدخلوها الحرب لتصفي ماليتها ووجودها .
وجاء أتاتورك ليفرض عليها اللون الغربي ، وينقلها نقلة واسعة عن دولة الخلافة الإسلامية إلى دولة علمانية تكتب بالحروف اللاتينية ، ويقضي على الإسلام تمامًا ، ومعاهدته السرية المعروفة التي عرفت بمعاهدة لوزان تكشف ذلك في وضوح .
وقد استطاع أتاتورك إخفاء وجهه الحقيقي حتى يؤدي دوره كاملًا فخدع المسلمين في المرحلة الأولى بالصلاة وإمساك المصحف ، وطلب الدعاء منهم ، أما دوره في الجهاد في أزمير فقد كشفت الوثائق أنه كان زائفًا ، وأن غيره هو الذي قام بدور البطولة ، وأنه استلب منهم هذا المجد وحطمهم ونسبه إلى نفسه .
ولقد كان أتاتورك عميلًا غربيًا كاملًا ، وعميلًا صهيونيًا أصيلًا ، وقد أدى دوره تمامًا ، وأقام تلك التجربة المظلمة المريرة التي تركت آثارها من بعد على العالم الإسلامي كله ، والتي كشفت الأحداث في الأخير فسادها ، وتبرأ الأتراك المسلمون من تبعتها ، وكانت ظاهرة عودتهم إلى الأصالة مرة أخرى دليل على أنها كانت تجربة زائفة مضادة للفطرة ولطبائع الأشياء ، والدليل إن المسلمين لم يتقبلوها بل رفضوها ، وقد كشف أكثر من مستشرق وفي مقدمتهم « هاملتون جب » أن العرب لن يقعوا في براثن هذه التجربة التي خرجت بهم عن الأصالة وعن الذاتية الإسلامية .
ولقد كان من أكبر معالم اضطراب كمال أتاتورك أنه عندما أحس بدنو أجله أن دعا السفير البريطاني ليتولى بدلًا منه رئاسة الدولة التركية ، كعلامة من علامات الخسة والنذالة والخيانة !!
وقد صفع المؤرخ العالمي أرنولد توينبي التجربة الكمالية التي يفخرون بها ويمجدونها الآن بعد أن رفضها أهلها وحكموا بفسادها ، يقول توينبي : إن الأتراك كانوا عالة على الحضارة الغربية ، وأنهم تغربوا ولم يقدموا أي شيء إلى هذه الحضارة فكانوا عاجزين عن الإبداع في أي مجال من مجالات الإنتاج .
والواقع أن مصطفى كمال أتاتورك لم يكن يدعي المدعون شيئًا جديدًا ، ولكنه كان حلقة في المؤامرة التي بدأها مدحت ، وكان وسطها رجال الاتحاد والترقي للقضاء على السلطان والدولة العثمانية ، ثم ختمها أتاتورك بالقضاء على الخلافة الإسلامية ، ولا ريب أن انتقاص قدر الدولة العثمانية وحكامها مجاف لواقع التاريخ ، وهو من عمل أتباع التغريب والشعوبية ، وقد جرى ضمن مخطط يرمي إلى إثارة الخلافات والخصومة بين عناصر الأمة الإسلامية ، وكان دعوة للوقيعة بين العرب والترك والفرس ، وهم عناصر الأمة الواحدة التي جمعها القرآن وقادها محمد غ وآمن بأنه لا إله إلا الله مهما كانت هناك خلافات فرعية فإنهم جميعًا أمة واحدة ، ولو كان هناك قليل من الإنصاف والأمانة التاريخية لدي كتابنا المزيفين لراجع الكاتب ما كتبه استيورت وهو غربي في كتابه « حاضر العالم الإسلامي قبل أربعين عامًا » وكيف تحدث عن عظمة الدولة العثمانية ودورها الذي قامت به في وجه الصليبية الغربية .
أما صيحة العناصر والأجناس التي حاول كاتب أخبار اليوم أن يجعلها قضية فإنها لم تكن كذلك في ذلك الوقت ، وإنما هي المؤامرة التي عند النفوذ الأجنبي بها إلى استغلال صيحة القوميات لتفكيك عرى الدولة العثمانية ، أما المسلمون فلم يكونوا يعرفون مصرية وسورية وجزائرية وغيرها ولا كلمة العروبة نفسها ، ولكنهم كانوا مسلمين فحسب ، وإنما ظهرت هذه الدعوات إلى الإقليميات والقوميات وبتحريض عناصر غير مخلصة لتفكيك عرى الوحدة ، وهدم هذه الجامعة الإسلامية التي كان الغرب يخشاها ، ولإقامة قومية زائفة هي القومية الصهيونية .
ولا ريب أن الأسلوب الذي اتخذ في إسقاط السلطان عبد الحميد هو أسلوب لم يعرفه النظام الإسلامي في تاريخه كله وهو من صنع المؤامرة الصهيونية التلمودية التي استطاعت أن تحمي وتحرك هذا الخداع عن طريق قوة عسكرية تتحرك هاتفة باسم السلطان خدعة ثم تكون في نفس الوقت متآمرة عليه لخدمة هدف غامض على كل الذين قاموا به ، ولا يعرفه إلا القليل وهو إعادة اليهود إلى فلسطين .
كذلك فإن ما قام به أتاتورك لم يكن نصرًا عسكريًا أو سياسيًا وإنما كان هناك إشارة بقبول التوجيه الغربي ، وتوقيع ملحق معاهدة لوزان وهو الذي فتح الطريق إلى كل شيء ، وبه حلت جميع المشاكل ، وانسحبت كل الجيوش ، وتحقق ما يسمى النصر والاستقلال ، وكتبت على أثر ذلك آلاف الكتب في تمجيد البطل الذي لم يكن إلا عميلًا من عملاء الخيانة لحساب الصهيونية العالمية والنفوذ الغربي والشيوعية أيضًا ، فإن الشيوعيين هم أول من عاونه لقاء موقفه من عداء الإسلام » .
كراهيته للشريعة ومحاربته لها :
لقد كانت كراهية أتاتورك للإسلام وشريعته واضحة حتى قبل أن يُسقط الخلافة رسميًا ، فكما يقول أرمسترونج : « ولقد طالما أوضح لأصدقائه أنه يرى وجوب اقتلاع الدين من تركيا » ([3]) .
وفي نفس السياق يقول جورج حداد : « كان التحديث بالنسبة له ـ أي أتاتورك ـ يعني أن يتم بتغريب وعلمنة المجتمع التركي وتحرير القطر من تأثير الإسلام والشرق ومن مظاهر الثقافة العربية » ([4]) .
تنفيذ أتاتورك لمخططات غربية :
ونفَّذ مصطفى كمال أتاتورك مخططًا مرسومًا له في المعاهدات التي عُقدت مع الدول الغربية ، فقد فرضت معاهدة لوزان سنة 1340هـ /1923م على تركيا شروطًا عُرفت بشروط « كرزون » الأربع ، نسبة إلى رئيس الوفد الإنجليزي في مؤتمر لوزان ([5]) .
أتاتورك واتفاقية كرزن :
وتمت صناعة البطل بنجاح باهر ووقف يتحدى الحلفاء وألقى باليونان في البحر ، ولم ير الحلفاء بدًا من التفاوض معه ! وكانت ثمرة المفاوضات هي : الاتفاقية المعروفة باتفاقية « كيرزن » عام 1923م ذات الشروط الأربعة :
1- إلغاء الخلافة الإسلامية نهائيًا من تركيا .
2- أن تقطع تركيا كل صلة مع الإسلام .
3- أن تضمن تركيا تجميد وشل حركة جميع العناصر الإسلامية الباقية في تركيا .
4- أن يستبدل الدستور العثماني القائم على الإسلام بدستور مدني بحت .
ويصف المؤرخ « أرمسترونج » خطوات تنفيذ الاتفاقية قائلًا :
« انطلق كمال أتاتورك يكمل عمل التحطيم الشامل الذي شرع فيه وقد قرر أنه يجب عليه أن يفصل تركيا عن ماضيها المتعفن الفاسد ، يجب عليه أن يزيل جميع الأنقاض التي تحيط بها ، هو حكم فعلًا النسيج السياسي القديم ، ونقل السلطنة إلى ديموقراطية ، وحول الإمبراطورية إلى قطر فحسب ، وجعل الدولة الدينية جمهورية عادية ، إنه طرد السلطان « الخليفة » وقطع جميع الصلات عن الإمبراطورية العثمانية ، وقد بدأ الآن في تغيير عقلية الشعب بكاملها وتصوراته القديمة وعاداته ولباسه وأخلاقه وتقاليده وأساليب الحديث ومناهج الحياة المنزلية التي تربطه بالماضي » ([6]) .
ومن ثم أقحمت تركيا في عمليات تغريب بشعة ، شملت جميع مناحي الحياة بلا استثناء يذكر ، أراد من خلالها أتاتورك أن يجعل تركيا العلمانية مثالًا يحتذي به الآخرون في التحرر والانفلات من شرع الله ، وكان لذلك مظاهر عدة كما يلي :
1- المساجد والمؤسسات الدينية :
حيث أُلغيت وزارة الأوقاف سنة 1343هـ /1924م ، وعُهد بشؤونها إلى وزارة المعارف ، وفي عام 1344هـ /1925م أُغلقت المساجد وقضت الحكومة في قسوة بالغة على كل تيار ديني وواجهت كل نقد ديني متهمة إياه بإثارة العنف والبلبلة والفوضى .
وفي عام ( 1350-1351هـ /1931-1932م ) حُدد عدد المساجد ولم يسمح بغير مسجد واحد في كل دائرة من الأرض يبلغ محيطها 500 متر وأعلن أن الروح الإسلامية تعوق التقدم .
وتمادى مصطفى كمال في تهجمه على المساجد فخَفَّض عدد الواعظين الذين تدفع لهم الدولة أجورهم إلى ثلاثمائة واعظ ، وأمرهم أن يفسحوا في خطبة الجمعة مجالًا واسعًا للتحدث عن الشؤون الزراعية والصناعية وساسة الدولة وكيل المديح له .
وأغلق أشهر جامعين في اسطنبول فحوَّل أولهما وهو مسجد آيا صوفيا إلى متحف ، وحوَّل ثانيهما وهو مسجد الفاتح إلى مستودع .
2- القوانين والتشريعات الإسلامية :
أما الشريعة الإسلامية فقد استبدلت وحل محلها قانون مدني أخذته حكومة تركيا عن القانون السويسري عام 1345هـ /1926م ، وغيرت التقويم الهجري واستخدمت التقويم الجريجوري الغربي ، فأصبح عام 1342هـ ملغيًّا في كل أنحاء تركيا وحل محله عام 1926م .
وفي دستور عام 1347هـ /1928م أغفل النص على أن تركيا دولة إسلامية ، وغيَّر نص القَسَم الذي يُقسمه رجال الدولة عند توليهم لمناصبهم ، فأصبحوا يقسمون بشرفهم على تأدية الواجب بدلًا من أن يحلفوا بالله كما كان عليه الأمر من قبل .
3- الحياة الاجتماعية :
وفي عام 1935م غيَّرت الحكومة العطلة الرسمية فلم يعد الجمعة ، بل أصبحت العطلة الرسمية للدولة يوم الأحد ، وأصبحت عطلة نهاية الأسبوع تبدأ من ظهر يوم السبت وتستمر حتى صباح يوم الاثنين .
وأمعنت حكومة مصطفى كمال في حركة التغريب فأصدرت قرارًا بإلغاء لبس الطربوش وأمرت بلبس القبعة تشبهًا بالدول الأوروبية ([7]) .
وأخذ أتاتورك ينفخ في الشعب التركي روح القومية ، واستغل ما نادى به بعض المؤرخين من أن لغة السومريين أصحاب الحضارة القديمة في بلاد ما بين النهرين كانت ذات صلة باللغة التركية .
وعملت حكومته على الاهتمام بكل ما هو أوروبي فازدهرت الفنون وأقيمت التماثيل لأتاتورك في ميادين المدن الكبرى كلها ، وزاد الاهتمام بالرسم والموسيقى ووفد إلى تركيا عدد كبير من الفنانين أغلبهم من فرنسا والنمسا .
وعملت حكومته على إلغاء حجاب المرأة وأمرت بالسفور ، وألغي قوامة الرجل على المرأة وأطلق لها العنان باسم الحرية والمساواة وشجع حفلات الراقصة والمسارح المختلطة والرقص .
وأمر بترجمة القرآن إلى اللغة التركية ففقد كل معانيه ومدلولاته ، وأمر أن يكون الأذان باللغة التركية .
4- الحياة التعليمية والثقافية :
وأهملت الحكومة التعليم الديني في المدارس الخاصة ، ثم تم إلغاءه بل أن كلية الشريعة في جامعة استانبول بدأت تقلل من أعداد طلابها ، ثم ما لبثت أن أُغلقت عام 1352هـ /1933م .
وفي عام 1348هـ /1929م بدأت الحكومة تفرض إجباريًا استخدام الأحرف اللاتينية في كتابة اللغة التركية بدلًا من الأحرف العربية ، وبدأت الصحف والكتب تصدر بالأحرف اللاتينية وحذفت من الكليات التعليم باللغة العربية واللغة الفارسية ، وحُرِّمَ استعمال الحرف العربي لطبع المؤلفات التركية .
وأما الكتب التي سبق لمطابع استانبول أن طبعتها في العهود السالفة ، فقد صدرت إلى مصر ، وفارس ، والهند ، وهكذا قطعت حكومة تركيا كل ما بين تركيا وماضيها الإسلامي من ناحية ، وما بينها وبين المسلمين في سائر البلدان العربية والإسلامية من ناحية أخرى ([8]) .
عمل على تغيير المناهج الدراسية وأعيد كتابة التاريخ من أجل إبراز الماضي التركي القومي ، وجرى تنقية اللغة التركية من الكلمات العربية والفارسية ، واستبدلت بكلمات أوروبية أو حثية قديمة .
استبداله القوانين الشرعية بقوانين أوروبية :
قال الدكتور محمد حسين في الاتجاهات الوطنية :
نصب مصطفى كمال نفسه إلهًا من دون الله يشرع للأمة كما يشاء ، فلفق قانونًا فريدًا يتكون أكثر من القانون السويسري والقانون الإيطالي وغيرهما وأكمل الباقي من عنده ، ومع ذلك فهو يدعي أنه كله من عنده قائلًا :
« نحن لا نريد شرعًا فيه قال وقالوا ولكن شرعًا فيه قلنا ونقول » ([9]) .
ويصف أحد الكتاب الغربيين جلسة في مجلس النواب فيقول أن مصطفى كمال وقف قائلًا :
« إن التشريع والقضاء في أمة عصرية يجب أن يكونا عصريين مطابقين لأحوال الزمان لا للمبادئ والتقاليد » .
ثم اقتفاه وزير العدل شارحًا ومفسرًا :
« إن الشعب التركي جدير بأن يفكر بنفسه بدون أن يتقيد بما فكر غيره من قبله ، وقد كان كل مادة من مواد كتبنا القضائية مبدوءة بكلمة قال المقدسة ، فأما الآن فلا يهمنا أصلًا ماذا قالوا في الماضي بل يهمنا أن نفكر نحن ونقول نحن » ([10]) .
ويعترض عليه مرة أحد القانونيين بقوله :
« إن هذا النظام الذي تريدون وضعه لا يوجد في أي كتاب للقانون » .
فيتلقى الجواب التالي :
« إن النظم ليست إلا أشياء وأمورًا تكيف ومرت من التجارب ، على أن أنفذ ما أريد وعليكم أن تدرجوا ما أعمل في الكتب !! » ([11]) .
ونتيجة التطرف والغلو المفرط والأعمال التي لا مبرر لها إلا تنفيس الحقد الأوروبي على الإسلام ومركب النقص الذي كان يستشعره الكماليون ، اتخذت تركيا المتعلمنة تدبيرات وإجراءات غربية حقًا :
فقد ألغت بالعنف والإرهاب الكتابة التركية بالأحرف العربية ثم تجرأت فحرمت الأذان بالعربية ، وكتبت المصحف أو ترجمته بلغتها الهجين ، وحددت عدد المساجد وأقفلت كثيرًا منها أو حولته إلى ما لا يتفق وقداسته كما فعلت بجامع أيا صوفيا ، وألغت وزارة الأوقاف ، وفرضت بقوة السلاح المسخ الفكري وحتى المظهري على الأمة لا سيما معركة القبعة الأوروبية التي سالت لأجلها الدماء ، وألغيت الأعياد الإسلامية ، وحطمت بصورة استبدادية مظاهر الحشمة والحياء الإسلامية ، فأكرهت النساء على تقليد المرأة الغربية في كل شيء وحاربت بشدة صارمة كل من اعترض طريقها من المتورعين وحتى المعتدلين شيئًا ما من الكماليين .
ولذلك فإن حكومة تركيا العلمانية الكمالية ـ هي كما وصفها الأمير شكيب أرسلان ـ ليست حكومة دينية من طراز فرنسا وإنجلترا فحسب ، بل هي دولة مضادة للدين كالحكومة البلشيفية في روسيا سواء بسواء ، إذ أنه حتى الدولة اللا دينية في الغرب بثوراتها المعروفة لم تتدخل في حروف الأناجيل وزي رجال الدين وطقوسهم الخاصة وتلغى الكنائس .
والحقيقة المرة أن مصطفى كمال قد خلق نموذجًا صارخًا للحكام في العالم الإسلامي ، وكان لأسلوبه الاستبدادي الفذ أثره في سياسات من جاء بعده منهم ، كما أنه أعطى الاستعمار الغربي مبررًا كافيًا للقضاء على الإسلام ، فإن فرنسا مثلًا بررت تنصير المغرب العربي وفرنجتها بأنه لا يجب عليها أن تحافظ على الإسلام أكثر من الأتراك المسلمين أنفسهم !!
وليس أعجب من هذا الرجل وزمرته إلا من ينادون اليوم من الزعماء بإقامة حكومات علمانية في بلادهم ويقولون : أن مصطفى كمال هو قائدهم الروحي .
انتشار الفقر نتيجة للبعد عن شرع الله :
وتشربت تلك الأحلام الوردية التي طالما خدع بها الشعب التركي ، وجاءت النتيجة واضحة صريحة ، كما عبر عنها أرمسترونج فقال : « كان الفقر يعم كل مكان ، والأيام الذهبية التي وعد الشعب بها بعد طرد الأعداء قد تمخضت عن أيام أسوأ من أيام السلطان عبد الحميد ذاته ، فقد عز الطعام وتفاقم الغلاء وشحت النقود ، بل شحت البضائع الضرورية واختفت من الأسواق وثقلت الضرائب وازداد جشع جباتها وجند الشباب جميعًا في الجيش برغم انتهاء الحرب ، فانهارت البيوت والمزارع على أصحابها ، وماتت الماشية لقلة العلف ، وأتلف الجدب الحاصلات الزراعية ، وصارت الحياة عبئًا لا يطاق بعد أن بلغت الفاقة والعوز حدًّا لم يسمع بمثله من قبل » ([12]) .
تأثير حركة أتاتورك على العالم الإسلامي :
يقول الدكتور محمد حسين :
وقد كان لهذه الحركة التي تعتمد على التأويل والتي تدعو إلى تطوير الشريعة بما يناسب ظروف الزمان والمكان وبما يساير الحضارة الغربية مظاهر كثيرة ، ربما كان أبرزها الدعوة إلى ما يسمَّى « تحرير المرأة » ، والدعوة إلى تعديل قانون الأحوال الشخصية فيما يتصل بها ، بتقييد تعدد الزوجات ، وتقييد الطلاق ، ومساواة المرأة بالرجل في الميراث ([13]) ،
وكان من مظاهرها كذلك تشدد الناس في الأخذ ببعض أحكام الإسلام ، وتساهلهم في الأخذ ببعضها الآخر ، مسايرةً للزمان ، وربما وجدوا من علماء الدين ، وممن يُدخلون أنفسهم فيهم ، من يفتيهم بما يلائم هواهم ، وربما وَصَفوا أمثال هؤلاء بسعة الأفق أو بمرونة التفكير أو التحرر أو التقدمية ، وربما وصفوا الذين يتمسكون بالشرع لا يتزحزحون عن أحكامه ولا يجعلونه تبعًا للشهوات والأهواء بالتزمت والجمود والرجعية ﴿ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ﴾ على أن الذين لا شك فيه هو أن التشدد في الأخذ ببعض أحكام الدين ، والتساهل في الأخذ ببعضها الآخر ، يَرُدّ الناس إلى مثل حال اليهود الذين قال فيهم الله ـ : ﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ﴾ ، وهو على كل حال لونٌ من ألوان تطوير الإسلام وحمله على التشكل بالحياة ([14]) .
وكان أكثر مظاهر هذه الحركة تطرفًا ما كانت ترويه الصحف عما يجري في تركيا باسم تجديد الإسلام ، في عهد الاتحاديين ثم في عهد الكماليين ، أو الإسلام الجمهوري كما سمته بعض الصحف ، فمن أمثلة ذلك ما ذكرته صحيفة المنار عن بعض ما جاء في كتاب « قوم جديد » التركي ، من اعتبار الصيام والصلاة والحج والزكاة والعمل بكتب فقه الأئمة الأربعة هو دين قدماء المسلمين الذين يعبر عنهم بكلمة « قوم عتيق » ، ووضعهم في مقابل ذلك أركان دين « قوم جديد » وهي : العقل ، وكلمة الشهادة ، والأخلاق الجهاد ( تحت إمرة أنور ، ورضا ، وأسعد ، وجاويد ، ورءوف صلى الله تعالى عليهم ، وبقية رجال جمعية الاتحاد والترقي المقدسة ) ([15]) .
أمثلة من زندقة أتاتورك وخبث طويته :
قال هذا الزنديق في افتتاح البرلمان التركي عام 1923م :
« نحن الآن في القرن العشرين لا نستطيع أن نسير وراء كتاب تشريع يبحث عن التين والزيتون » ([16]) .
عدوه الأكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم :
كان أتاتورك في فندق « بارك » وكان المؤذن يرفع الأذان في المسجد الصغير الكائن أمام الفندق مباشرة ، يلتفت أتاتورك لمن حوله قائلًا :
« من قال بأننا مشهورون ؟ وما شهرتنا نحن ؟ انظروا إلى هذا الرجل كيف أنه وضع اسمًا وشهرة بحيث أن اسمه يتكرر في كل لحظة ، وفي جميع أنحاء العالم إذا أخذنا فرق الساعات بنظر الاعتبار ؛ ليهدموا هذه المنارة » .
قال أحمد شوقي في رثاء الخلافة الإسلامية :
أفتى خُزْعبــلة وقــال ضلالـــة
وأتى بكفـــر في الـــبلاد بُــواح
فلتسمــعنَّ بكــل أرض داعيــًا
يدعــو إلى الكــذاب أو لسجاحِ
ولتشهـــدن بكـل أرض فتنـــة
فيهــا يُبــاع الديــن بيع ســماح
يُفتــى على ذهبِ المُــعزِّ وسيفـه
وهوى النفوس وحقدها الملحاحِ
استبدال الحروف العربية باللاتينية :
قال محمد حسين :
جاء مصطفى كمال فحَمَل الناس في تركيا على ما حملَهم عليه من الأضاليل ، وكان في جملة ما سامهم من الأباطيل استبدالُ الحروف اللاتينية بالحروف العربية ، فتجدد كلام الناس في إصلاح الخط وخاضت الصحف فيه ، وكان أعجب ما ظهر في ذلك المشروع الذي تقدم به شيخ من شيوخ مجمع اللغة العربية في مختتم هذه الفترة التي نؤرخها ، واقترح فيه اتخاذ الحروف اللاتينية للكتابة العربية ([17]) .
وقال مبارك عبد الله :
إن الوقفة التاريخية حول بدء الدعوة إلى استبدال الحرف اللاتيني بالحرف العربي تبين أن جذورها تعود إلى أواسط القرن الماضي ، حيث نجحت هذه الدعوة في دفع أتاتورك في تركيا إلى تحويل الحرف العربي إلى الحرف اللاتيني ، كما نجحت أيضًا في بعض الدول الإسلامية الأخرى مثل ماليزيا وإندونسيا اللتين كانتا تعتمدان الحروف العربية في الكتابة ، ومثل ألبانيا والبوسنة ونيجيريا التي نجح الإنجليز في نقل حروف اللغات المحلية فيها من العربية إلى اللاتينية ، وقُطعت صلة هذه الدولة بتاريخها العربي عبر القضاء على آثارها العملية القديمة .
وفاته :
توفي في 10 نوفمبر 1938 بعد معاناة شديدة مع أمراض عدة أصابته ، حيث نشرت الوثيقة الطبية الخاصة به قبل وفاته والتي أعلنت أن مصطفى كمال أتاتورك قد أصيب في شبابه بمرض السيلان الذي لم يكن له علاج أكيد في ذلك الوقت ، ثم أصيب بمرض عضال في الكلية سنة 1917 لم يعرف ماهيته .
وكان يتعرض لآلام مبرحة مزمنة لا تطاق ، كانت السبب في إدمانه على شرب الخمر ؛ مما أدى إلى إصابته بتليف الكبد والتهاب في أعصابه الطرفية ، وتعرضه لحالات من الكآبة والانطواء وتدهور في المستويات العليا في المخ ([18]) .
ورحل أتاتورك عن الدنيا غير مأسوف عليه ، فقد عاش خائنًا لدينه وأمته وعقيدته ، ومات على ذلك ، بعد أن أجرم في حق الأمة الجريمة الكبرى .
منقول من
مختارات سلفية
محمودعاطف- عدد المساهمات : 117
تاريخ التسجيل : 03/02/2010
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى