فن الاختيار
صفحة 1 من اصل 1
فن الاختيار
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
فن الاختيار .......................... متى نقول اخترت صح
في قديم الزمان، كان هناك مَلِكٌ حكيم، يحكم مملكة عظيمة، وكان حريصًا جدًّا على أن تبقى المملكة مِن بَعدِه في عظمة وقوَّة وهيبة، بحيث يسعد بها الرعيةُ، ويخشاها الأعداءُ في كل مكان؛ ولهذا حين شعر بدنوِّ أجله، قرَّر أن يختار له نائبًا يحكم المملكة من بعده.
تشاوَرَ الملك الحكيم مع حاشيته وقُوَّاده ووزرائه كثيرًا، حتى وقع الاختيارُ على أحد الوزراء، وكان هذا الوزير معروفًا بالصدق، وحب الخير للجميع، وحسن الرأي والتدبير، كما كان الناس يحبونه حبًّا كبيرًا، ويثقون به.
لكن فرحة الناس بنائب الملك الجديد لم تستمرَّ إلا ثلاث سنوات فقط، ثم توفي فجأة دون مرض.
حزن الملك على نائبه حزنًا شديدًا، وكذلك شعرت الرعية في المملكة بأنها خسرتْ خسارة كبيرة، وتمنَّوا أن يعوضهم الله عنه خيرًا.
مكث الملك أسبوعًا يشاور قُوَّاده ووزراءه فيمن يصلح لهذا المنصب الخطير، ولكن هذه المرة كلما اقترح أحدُ الوزراء أو القُوَّاد شخصًا ليكون نائبًا للملك، إذا ببعض الوزراء أو القُوَّاد يذكرون فيه بعض العيوب التي لا تقدح فيه.
ولما وجد الملك أن وزراءه وقُوَّاده غير متَّفقين على أي شخص ليكون نائبًا له، قرَّر أن يلجأ إلى وسيلة أخرى لاختيار نائبه.
في صباح يوم جديد، طلب الملك من أعوانه أن يعلنوا في المملكة بأن كل مَن يرى أنه يصلح لتولي منصب نائب الملك، عليه أن يتقدم خلال أسبوع إلى القصر الملكي، وأن يحضر معه أفضل خمسة أشخاص يعتمد عليهم في اتخاذ قراراته، على أن يجتاز الاختبارات التقليدية في فنون العلوم ومهارات الفروسية.
أحد القادة: ولماذا يحضر معه أفضل خمسة أشخاص يا مولاي الملك؟
الملك: ستعلم فيما بعد.
تقدم مئات الأفراد؛ طمعًا في هذا المنصب الرفيع، ولكن الاختبارات التقليدية التي أجريت لهم لم ينجح فيها إلا أربعةُ أفراد فقط.
وبعد أسبوع، وقف أربعة أشخاص خارج قاعة عرش الملك بقصره العظيم، يحدوهم الأمل أن يقع على أحدهم الاختيارُ لتولي المنصب الخطير، وينتظرون الإذن بالدخول.
أذِنَ الملك لهؤلاء الأربعة بالدخول إلى قاعة العرش، فلما دخلوا قال لهم الملك: مرحبًا بكم جميعًا، ولكن المملكة تحتاج نائبًا واحدًا فقط.
قال أحد الأربعة: على الملك أن يختار واحدًا منا، وعلى الآخرين أن يرضوا باختيار الملك.
الملك: ليس من الإنصاف الآن أن أختار دون تمييز، فأنا أختار واحدًا ليكون الملك من بعدي، ولا بد أن يكون جديرًا بهذه المسؤولية.
قال واحد آخر: فكيف ستختار من بيننا إذًا يا مولانا الملك؟
الملك يتوجه بالكلام إلى حاشيته من الوزراء والقُوَّاد قائلاً: ما رأيكم؟
أحد الوزراء: أرى أن تجري بينهم اختبارًا خاصًّا يا مولاي؛ لمعرفة أكثرهم فطنة وحسن رأي وتدبير.
بقية الجالسين: نِعم الرأي، نِعْم الرأي.
الملك: نَعم، هذا رأي حسن، دعوني أفكِّر في اختبار ملائم، يفرز لنا أفضل المتسابقين وأقدرهم.
بعد أسبوع، جلس الملك على عرشه وحوله القادة والوزراء، وأمامه المتسابقون الأربعة، وقال الملك: الاختبار بينكم سيكون في عبور جسر رفيع، يصل بين ضفتي نهر صغير.
المتقدمون الأربعة ينظرون في ذهول إلى بعضهم، ثم إلى الملك، أما الحاشية والقُوَّاد والوزراء فراحوا يهمهمون غير مصدِّقين سهولة الاختبار، حتى قال أحدهم هامسًا لمن يجاوره: هل يعقل أن يكون الاختبار بهذه السهولة؟
وقال أحد القادة لمجاوره: لو كنت أعلم أن الاختبار هكذا، لتقدمت إليه أنا وكل أقاربي.
وقال غيره: يا له من اختبار سهل! ربما ضحك الناس لو علموا به، إن بعض المهرجين قد ينجح فيه أكثر من هؤلاء.
وهكذا انتشرت الهمسات بين الجالسين، تستغرب وتستعجب هذا الاختبار الذي طرحه الملك كدليل على أفضلية أحد المتسابقين الأربعة، وقدرته على تولي أهم المناصب بالمملكة.
وهنا قطع الملك تلك الهمساتِ بقوله: سينضم إلى كل متقدِّم ومجموعته رجلٌ من رجالي منذ هذه اللحظة، ولْيخترْ كلُّ متسابق ومجموعته اسمًا في المسابقة يُعرفون به، وسيكون الموعد غدًا صباحًا لاجتياز الاختبار، هيا انصرفوا الآن.
عاد المتسابق الأول إلى مجموعته التي حضرت معه، ومعه رجل الملك، وأخبرهم بما جرى، فقال أحدهم: ليتني كنت من المتقدمين معكم ما دام الأمر كذلك، ظننتُ أن الاختبار سيكون في القضاء بين اثنين في خصومة معقدة، أو قضية مُعضلة، أو سيكون في الإلمام ببعض العلوم والفنون النادرة، التي لا يحسنها إلا ذوو الأحلام والنهى.
وبعد الانتهاء من التعليقات، قال المتسابق الأول: والآن، كيف ترون أن نتصرف إزاء هذا الاختبار؟
ظل المتسابق الأول ومجموعته يتخيلون الموقف، ويقلبون الرأي، حتى وصلوا جميعًا إلى رأي مفاده أن يُعينوا زعيمهم بتقسيم أنفسهم إلى فريقين: الأول يتكون من اثنين يقفان إلى الجهة اليمنى من زعيمهم عند عبور الجسر، والثاني يتكون من ثلاثة، ويكون إلى الجهة اليسرى منه، ويقوم الفريقان بتوجيه زعيمهم خلال عبور الجسر؛ ليحفظ توازنه، فإذا مال إلى جهة أكثر، نبَّهوه وأرشدوه، وباتوا على هذا الرأي واثقين من سداده ونجاعته في الفوز.
أما المتسابق الثاني، فلم يختلف الأمر معه كثيرًا عما جرى مع زميله المتسابق الأول، حيث اقترح عليه مستشاروه في مجموعته أن ينقسموا أيضًا لقسمين، ولكن على أن يكون القسم الأول على الناحية التي سيبدأ منها زعيمهم العبور، والقسم الثاني على الضفة الأخرى؛ ليصححوا مساره كلما مال أو انحرف، وباتوا فرحين بهذا الرأي، آملين أن يفوز متسابقهم.
في الصباح، كان الجو مشمسًا جميلاً، وقد أعد حرَّاس الملك له مكانًا ظليلاً، وكذا لقُوَّاده ومقرَّبيه، وجاء المتسابقون الأربعة ومستشاروهم، يصطحبهم رجال الملك، وجلسوا في المكان المُعدِّ لهم قريبًا من الجسر، ثم أشار الملك إلى المتسابق الأول ومجموعته أن يبدؤوا، بعد أن يعلنوا اسمهم الذي اختاروه لأنفسهم.
بدأت مجموعة المتسابق الأول تنفِّذ الخطة كما رسمتْها أمسِ، ولكن قبل أن يصل متسابقهم إلى منتصف الجسر كان قد سقط في الماء، فأمر الملك جنوده أن يُخرجوه ويعطوه ثيابًا جديدة، ثم يُجلسوه مع أصحابه.
وهكذا قام متسابق تلو متسابق لعبور الجسر، حتى انتهت المسابقة بسقوط اثنين وفوز اثنين، فأمر الملك الجميع بالانصراف، على أن يحضروا إليه في قصره غدًا، لكن دون أن يعلن عن الفائز.
في اليوم التالي، اجتمع الملك الحكيم بأهل مشورته، والمقربين منه، والمتسابقين الأربعة، ومجموعاتهم الاستشارية، وبدأ الحديث بالقول:أعلم أنكم جميعًا شغوفون بمعرفة من يقع عليه الاختيار لتولي هذا المنصب المهم، وأن أكثركم تعجَّبَ للاختبار الذي أجريتُه، حتى ظن بعضكم أنه كان أجدر باجتيازه من هؤلاء الأربعة؛ بل وربما اتَّهمني في باطنه بما لا أحبُّ ذِكرَه، ولكن عما قليل سيتبين لكم ما أردته.
والآن، أين رجالي الذين ضممتهم إلى كل مجموعة؟
خرج أربعة رجال من جانب في قاعة العرش، وقالوا: الأمر لمولانا الملك.
قال الملك: ليخبرْنا كلٌّ منكم بما رآه وشاهده منذ ألحقتُه بإحدى المجموعات المتسابقة.
فتقدم أحدهم، وكان الذي ألحقه الملك بمجموعة المتسابق الأول الذي خسر، فحكى ما حصل كما أسلفناه، وهكذا فعل الثاني الذي التحق بمجموعة المتسابق الثاني الذي خسر أيضًا.
ثم تقدم الثالث وقال: أنا كنت مع المتسابق الثالث الذي استطاع أن يعبر الجسر بنجاح، وهذا المتسابق عندما عاد إلى مجموعته أخبرهم إجمالاً - لا تفصيلاً - بطبيعة المسابقة، فلما أرادوا أن يستوضحوه عنها جيدًا، أشاح عنهم بوجهه في غضب كأنه لا يريد إزعاجًا، ثم استلقى على سريره في هيئة المفكِّر، ولما أرادتْ مجموعته أن تراجعه في سبب انصرافه عنهم، ألقى بالغطاء على رأسه ونام حتى الصباح، وفي الطريق إلى مكان الاختبار لم يتحدث معهم، وكان يطالبهم بالصمت إذا تحدثوا؛ حتى لا يفسدوا عليه تركيزه، ولا يقطعوا عليه حبل أفكاره.
وأما مجموعته يا مولاي، فمنذ تركهم دون أن يُفهِمَهم شيئًا، وهم لا يَكفُّون عن همهمات غاضبة، لم أستطع أن أتبين منها شيئًا؛ بل أكاد أجزم يا مولاي أن هذه الهمهمات الغاضبة استمرتْ، حتى بعد فوز سيدي في المسابقة، وعبوره الجسر بنجاح.
الملك: شكرًا لك.
ثم تقدم آخرهم وقال: أما أنا، فكنت مع المتسابق الرابع، وما أن عاد هذا المتسابق إلى مجموعته، حتى حكى لهم تفصيلاً ما جرى مع الملك، ثم طلب من كل واحد في مجموعته أن يجلس منفردًا ساعة؛ ليفكر كيف يصنع لو كان مكانه هو، ثم جمعهم بعد ساعة، وراح يستمع لكل منهم، ويناقشه، ويجعل أصحابه يناقشونه فيما قاله، وهكذا قضوا وقتًا طويلاً، حتى إن أحدهم قال له مُتبرمًا: أكل هذا الوقت نقضيه في التفكير لاختبار سهل كهذا؟!
فردَّ عليه سيدي المتسابق الرابع بقوله: إن الاستهانة باختبار هي أولى خطوات الفشل في تجاوزه، ثم إن هذا اليوم له ما بعده، وهل تحسب أن الملك يجري هذا الاختبار؛ ليرى فقط من يعبر الجسر؟ إني لأحسبُ أن الأمر أكبر من ذلك، خاصة وأن ما نعلمه عن الملك أنه صاحب حكمة وفطنة، وأنا أحب لك أن تشاركنا التعب؛ لتشاركنا الثمرة، فإن أبَيتَ فدونكَ السريرَ والراحة، فنلْ منهما ما شئتَ ولا حرج عليك.
فإذا بالرجل يا مولاي يتحمس مرة أخرى للحوار والمناقشة برضا وسرور قائلاً: بل أشارككم، وأرجو أن تسامحني يا سيدي.
فقال له المتسابق الرابع: أحسنتَ، ولو لم تفعل لطلبتُ منك مفارقتنا، فإن الذي لا يصبر معنا ونحن ما زلنا في سَعة، أحرى ألا يصبر معنا إذا أصابنا أذًى أو ضيقٌ.
ثم أكملوا مناقشاتهم يا مولاي، وبعدها ناموا إلى الصباح، وحين استيقظوا قال لهم سيدي المتسابق الرابع: هل بدا لأحدكم شيء جديد من الرأي؟ فقال أحدهم: لي ملحوظة، فاستَمَعَها منه، ثم قال حين خرجوا من المنزل: الآن لا أريد أن أسمع شيئًا من أحدكم بخصوص الاختبار، استمتعوا بجمال الطبيعة حتى نصل إلى مكان الاختبار.
وهكذا يا مولاي مشى أصحابُه فرحين معه، وعندما عبر سيدهم الجسر، شعروا بالسعادة وكأنهم هم الذين عبروا الجسر.
قال الملك: شكرًا لك.
ثم توجَّه الملك بحديثه إلى الملأ من حوله قائلاً: فمن ترشحون الآن لمنصب النائب؟
ضجَّت القاعة بكلام لا يكاد يُفهم، ما بين من يقول: المتسابق الثالث، ومن يقول: الرابع، ولم يلبث الملك أن أمر الجميع بالصمت، ثم قال: الذين يرشحون الثالث يرفعون أيديَهم، فرفعوها، فأمر الملك بِعَدِّها، فإذا هم خمسة عشر، ثم قال: والذين يرشحون المتسابق الرابع يرفعون أيديهم، فرفعوها، فإذا هم خمسة عشر.
وكان قد بقي خمسة لم يرفعوا أيديهم، لا في اختيار الثالث ولا الرابع، فقال الملك: وأنتم ألا تختارون بينهما؟
فقال واحد من هؤلاء الخمسة: إننا متحيرون يا مولاي، وإذا شئت يا مولاي فصلتَ بينهما برأيك، فترجح أحدهما على الآخر، فكلاهما عبر الجسر ونجح في الاختبار.
قال الملك: حسنًا؛ بل أنتم من يرجح بينهما.
تعجب الحاضرون من قول الملك، ولكن قبل أن يقول أحدهم شيئًا، قال لهم الملك: سأسألكم أسئلة، فأجيبوني عليها.
فقال أحد الخمسة: سمعًا وطاعة يا مولاي، سَلْ نُجِبْك.قال الملك: لماذا خسر الأول والثاني؟فقال أحد الخمسة: لأنهما لم يستطيعا حفظ توازنهما.وقال آخر منهم: بل لأن كليهما جعل نفسه ألعوبة بين آراء أصحابه ما بين اليمين واليسار، والأمام والخلف؛ ظنًّا منهما أن التردد بين الرأيين، والعمل بكلا الكلامين يضبط رؤيته، ويُسلِّم خطواته، فيظفران بالفوز.فقال بقية الخمسة معجبين بهذا الاستنتاج: نعم هو ذاك، نعم هو ذاك.
فقال الملك: ولماذا ربح الثالث؟فقال صاحب الاستنتاج السابق: لأنه اجتهد رأيه، وحزم أمره، ووثق بنفسه.وقال غيره: بل قل: استبدَّ برأيه، ولم يَرقُب قولاً من ناصحٍ ولا مشير، وإني من فوزه لمتعجب محتار.وقال آخر: لعل الحظ حالفه يا مولاي.وقال آخر: أرى أنه كان يعلم أن أحسن رأي من أصحابه كان أقلَّ من رأيه لنفسه، فاستصغرهم واستهان بشأنهم، وهذا لا يَعيبُه بنظري؛ غير أني لم أفهم ولا أدري إذا كان لا يرى فيهم نفعًا، فلماذا أحضرهم معه؟
ثم قال الملك: فلماذا ربح الرابع؟قال أحدهم: وكيف لا يفوز يا مولاي، وقد اجتهد رأيه ورأي أصحابه، ثم حزم أمره، فكان واضح المسلك من البداية إلى النهاية؟! فحريٌّ به أن يفوز.فقال له الملك: فإن كان الأمر كما تقول، فلِمَ لم ترفع يدك لاختياره؟!فقال الرجل: لأني ظننت أن الربح جعله يستوي مع الثالث، فأكون قد ظلمت الثالث.فقال الملك له مرة أخرى: هبْ أن هناك شجرة قد حطَّت عليها عشراتُ العصافير، ومرَّ شاب أمامها، فأمسك بحجر فضرب به، فإذا به قد اصطاد عصفورًا، فأخذه وانصرف، ثم مرَّ شاب آخر أمام الشجرة، فرأى العصافير أقلَّ، فراح يراقب حركة العصافير، ثم التقط حجرًا، واتخذ لنفسه موضعًا حسنًا، ثم رمى بحجره يريد عصفورًا من الشجرة، فسقط العصفور، فأخذه وانصرف، أكنت تساوي الأول بالثاني؟فقال الرجل: لا يا مولاي.فقال الملك: فلو شئتَ أن تستأجر أحدهما لصيد العصافير، أكنت تختار الأول أم الثاني؟فقال الرجل: بل الثاني بلا ريب يا مولاي.
فقال الملك: ألا تشعر أنك قد ظلمتَ الأول؟فقال الرجل: بل أحسبني أكون غبيًّا يا مولاي لو اخترتُ الأول.قال الملك: ولِمَ؟ أولم تكن النتيجة واحدة، وكلاهما ربح عصفورًا؟قال الرجل: ولكن الأول قد يصيب مرة ويخطئ عشرة؛ لأنها جاءت على غير تدبير، وأما الثاني فإنه لما صوَّب على هدف واحد، أصابه، ولو شاء لأصاب بقية الأهداف.ثم وجَّه الملك كلامه لبقية الخمسة، فقال: فما رأيكم فيما يقول؟فقالوا جميعًا: كلامه حق وصدق يا مولانا الملك.
قال الملك: فهل يغيِّر أحدُكم رأيه، ويخرج عن حياده للاختيار بين المتسابقين الثالث والرابع؟فرفع ثلاثة منهم بصوت واحد: نختار الرابع يا مولانا الملك.نظر الملك إلى الاثنين المتبقيين، وقال: فما زلتما على ترددكما في الاختيار أم أنكما مع الثالث؟فقال أحدهما: أما أنا، فما زلت أرى أن الثالث له الحق في المنصب، باعتباره فائزًا في اختبار الملك.قال الملك للثاني: وأنت؟قال: أنا لا أستطيع الجزم برأي يا مولاي في أمرهما.فقال الملك للثاني: فإن علمتَ أني ما أجريت هذا الاختبار، إلا لأعلم طريقة تفكيرهم واتخاذهم القرار، وإلا لكان أي فرد في مملكتي خليقًا بالمنصب المنشود.
فقال الرجل: وماذا تصنع بالفائز الثالث يا مولاي؟قال الملك: إن المشكلة أن الناس دائمًا يستعجلون الأمور، ويهتمون بظواهرها، دون التعمق إلى أسرارها وجوهرها، إن النظر إلى المثال الذي ضربتُه لكم للشابَّينِ والشجرة كفيلٌ أن يخبرك أن من يستأجر الشاب الأول، كان سرعان ما سينبذه ويطرده، علمًا بأنه ربح عصفورًا حين سدد قذيفته.
أما الشاب الثاني الذي فكَّر وخطط ودبر، فلو لم يكن اصطاد عصفورًا في الضربة الأولى، لكان حريًّا بذي العقل أن يختاره؛ لأنه حدَّد هدفه وعَمِل له، فإن لم يصبه في المرة الأولى، فهو جدير أن يصيبه في الثانية، ولعله بعد ذلك أن يضاعف مهارته، فتتكاثر أرباحه مع الأيام، هل فهمتني؟
أما الفائز الثالث، فنرضيه على قدر مجهوده، فلكل مجتهد نصيب، واعلم أن الحكيم لو انصاع لأحكام الناس ورأيهم في جلائل الأمور، ما صار حكيمًا.قال الرجل: قد زال الشك عندي يا مولاي، وإني أختار الرابع.
قال الملك: وكأني كلما تحدثت مع أحدكم قليلاً مال إلى الرابع، أفلا أكون إن وافقتكم على الرابع، أكون قد اخترت ما يتفق مع رأيكم وحُكمكم؟ لِمَ لا يكون غيره؟
شعر الجميع أن الملك يبدو وكأنه كان يسير بهم في اتجاه، ثم سيأخذ بعد ذلك اتجاهًا آخر، فظهرت على الوجوه الحيرة والشعور بعدم الفهم.أحس الملك بذلك فابتسم، ثم ضحك ببطء، ففهم الجميع أن الملك كان يريد أن يمازحهم بعد هذا الوقت الطويل من الجدل والنقاش، والأخذ والرد، فضجت القاعة بالضحك، ثم قال الملك: تستطيعون الآن تهنئة الفائز.
ثم صمت الملك، وبدا كأنه قرر أخيرًا تعديل رأيه، لكن الملك قال: الرابع.فضحك الجميع، وقاموا مهنئين نائب الملك الجديد.
ثم قاطع الملك الجميع بصوت مرتفع: وأيضًا هنِّئوا الفائز الثالث لاجتيازه الاختبار؛ فقد عينتُه أميرًا لإحدى إماراتنا.
فما رايكم في راي الملك بتعيينه اميرا لاحدي الامارات
فن الاختيار .......................... متى نقول اخترت صح
في قديم الزمان، كان هناك مَلِكٌ حكيم، يحكم مملكة عظيمة، وكان حريصًا جدًّا على أن تبقى المملكة مِن بَعدِه في عظمة وقوَّة وهيبة، بحيث يسعد بها الرعيةُ، ويخشاها الأعداءُ في كل مكان؛ ولهذا حين شعر بدنوِّ أجله، قرَّر أن يختار له نائبًا يحكم المملكة من بعده.
تشاوَرَ الملك الحكيم مع حاشيته وقُوَّاده ووزرائه كثيرًا، حتى وقع الاختيارُ على أحد الوزراء، وكان هذا الوزير معروفًا بالصدق، وحب الخير للجميع، وحسن الرأي والتدبير، كما كان الناس يحبونه حبًّا كبيرًا، ويثقون به.
لكن فرحة الناس بنائب الملك الجديد لم تستمرَّ إلا ثلاث سنوات فقط، ثم توفي فجأة دون مرض.
حزن الملك على نائبه حزنًا شديدًا، وكذلك شعرت الرعية في المملكة بأنها خسرتْ خسارة كبيرة، وتمنَّوا أن يعوضهم الله عنه خيرًا.
مكث الملك أسبوعًا يشاور قُوَّاده ووزراءه فيمن يصلح لهذا المنصب الخطير، ولكن هذه المرة كلما اقترح أحدُ الوزراء أو القُوَّاد شخصًا ليكون نائبًا للملك، إذا ببعض الوزراء أو القُوَّاد يذكرون فيه بعض العيوب التي لا تقدح فيه.
ولما وجد الملك أن وزراءه وقُوَّاده غير متَّفقين على أي شخص ليكون نائبًا له، قرَّر أن يلجأ إلى وسيلة أخرى لاختيار نائبه.
في صباح يوم جديد، طلب الملك من أعوانه أن يعلنوا في المملكة بأن كل مَن يرى أنه يصلح لتولي منصب نائب الملك، عليه أن يتقدم خلال أسبوع إلى القصر الملكي، وأن يحضر معه أفضل خمسة أشخاص يعتمد عليهم في اتخاذ قراراته، على أن يجتاز الاختبارات التقليدية في فنون العلوم ومهارات الفروسية.
أحد القادة: ولماذا يحضر معه أفضل خمسة أشخاص يا مولاي الملك؟
الملك: ستعلم فيما بعد.
تقدم مئات الأفراد؛ طمعًا في هذا المنصب الرفيع، ولكن الاختبارات التقليدية التي أجريت لهم لم ينجح فيها إلا أربعةُ أفراد فقط.
وبعد أسبوع، وقف أربعة أشخاص خارج قاعة عرش الملك بقصره العظيم، يحدوهم الأمل أن يقع على أحدهم الاختيارُ لتولي المنصب الخطير، وينتظرون الإذن بالدخول.
أذِنَ الملك لهؤلاء الأربعة بالدخول إلى قاعة العرش، فلما دخلوا قال لهم الملك: مرحبًا بكم جميعًا، ولكن المملكة تحتاج نائبًا واحدًا فقط.
قال أحد الأربعة: على الملك أن يختار واحدًا منا، وعلى الآخرين أن يرضوا باختيار الملك.
الملك: ليس من الإنصاف الآن أن أختار دون تمييز، فأنا أختار واحدًا ليكون الملك من بعدي، ولا بد أن يكون جديرًا بهذه المسؤولية.
قال واحد آخر: فكيف ستختار من بيننا إذًا يا مولانا الملك؟
الملك يتوجه بالكلام إلى حاشيته من الوزراء والقُوَّاد قائلاً: ما رأيكم؟
أحد الوزراء: أرى أن تجري بينهم اختبارًا خاصًّا يا مولاي؛ لمعرفة أكثرهم فطنة وحسن رأي وتدبير.
بقية الجالسين: نِعم الرأي، نِعْم الرأي.
الملك: نَعم، هذا رأي حسن، دعوني أفكِّر في اختبار ملائم، يفرز لنا أفضل المتسابقين وأقدرهم.
بعد أسبوع، جلس الملك على عرشه وحوله القادة والوزراء، وأمامه المتسابقون الأربعة، وقال الملك: الاختبار بينكم سيكون في عبور جسر رفيع، يصل بين ضفتي نهر صغير.
المتقدمون الأربعة ينظرون في ذهول إلى بعضهم، ثم إلى الملك، أما الحاشية والقُوَّاد والوزراء فراحوا يهمهمون غير مصدِّقين سهولة الاختبار، حتى قال أحدهم هامسًا لمن يجاوره: هل يعقل أن يكون الاختبار بهذه السهولة؟
وقال أحد القادة لمجاوره: لو كنت أعلم أن الاختبار هكذا، لتقدمت إليه أنا وكل أقاربي.
وقال غيره: يا له من اختبار سهل! ربما ضحك الناس لو علموا به، إن بعض المهرجين قد ينجح فيه أكثر من هؤلاء.
وهكذا انتشرت الهمسات بين الجالسين، تستغرب وتستعجب هذا الاختبار الذي طرحه الملك كدليل على أفضلية أحد المتسابقين الأربعة، وقدرته على تولي أهم المناصب بالمملكة.
وهنا قطع الملك تلك الهمساتِ بقوله: سينضم إلى كل متقدِّم ومجموعته رجلٌ من رجالي منذ هذه اللحظة، ولْيخترْ كلُّ متسابق ومجموعته اسمًا في المسابقة يُعرفون به، وسيكون الموعد غدًا صباحًا لاجتياز الاختبار، هيا انصرفوا الآن.
عاد المتسابق الأول إلى مجموعته التي حضرت معه، ومعه رجل الملك، وأخبرهم بما جرى، فقال أحدهم: ليتني كنت من المتقدمين معكم ما دام الأمر كذلك، ظننتُ أن الاختبار سيكون في القضاء بين اثنين في خصومة معقدة، أو قضية مُعضلة، أو سيكون في الإلمام ببعض العلوم والفنون النادرة، التي لا يحسنها إلا ذوو الأحلام والنهى.
وبعد الانتهاء من التعليقات، قال المتسابق الأول: والآن، كيف ترون أن نتصرف إزاء هذا الاختبار؟
ظل المتسابق الأول ومجموعته يتخيلون الموقف، ويقلبون الرأي، حتى وصلوا جميعًا إلى رأي مفاده أن يُعينوا زعيمهم بتقسيم أنفسهم إلى فريقين: الأول يتكون من اثنين يقفان إلى الجهة اليمنى من زعيمهم عند عبور الجسر، والثاني يتكون من ثلاثة، ويكون إلى الجهة اليسرى منه، ويقوم الفريقان بتوجيه زعيمهم خلال عبور الجسر؛ ليحفظ توازنه، فإذا مال إلى جهة أكثر، نبَّهوه وأرشدوه، وباتوا على هذا الرأي واثقين من سداده ونجاعته في الفوز.
أما المتسابق الثاني، فلم يختلف الأمر معه كثيرًا عما جرى مع زميله المتسابق الأول، حيث اقترح عليه مستشاروه في مجموعته أن ينقسموا أيضًا لقسمين، ولكن على أن يكون القسم الأول على الناحية التي سيبدأ منها زعيمهم العبور، والقسم الثاني على الضفة الأخرى؛ ليصححوا مساره كلما مال أو انحرف، وباتوا فرحين بهذا الرأي، آملين أن يفوز متسابقهم.
في الصباح، كان الجو مشمسًا جميلاً، وقد أعد حرَّاس الملك له مكانًا ظليلاً، وكذا لقُوَّاده ومقرَّبيه، وجاء المتسابقون الأربعة ومستشاروهم، يصطحبهم رجال الملك، وجلسوا في المكان المُعدِّ لهم قريبًا من الجسر، ثم أشار الملك إلى المتسابق الأول ومجموعته أن يبدؤوا، بعد أن يعلنوا اسمهم الذي اختاروه لأنفسهم.
بدأت مجموعة المتسابق الأول تنفِّذ الخطة كما رسمتْها أمسِ، ولكن قبل أن يصل متسابقهم إلى منتصف الجسر كان قد سقط في الماء، فأمر الملك جنوده أن يُخرجوه ويعطوه ثيابًا جديدة، ثم يُجلسوه مع أصحابه.
وهكذا قام متسابق تلو متسابق لعبور الجسر، حتى انتهت المسابقة بسقوط اثنين وفوز اثنين، فأمر الملك الجميع بالانصراف، على أن يحضروا إليه في قصره غدًا، لكن دون أن يعلن عن الفائز.
في اليوم التالي، اجتمع الملك الحكيم بأهل مشورته، والمقربين منه، والمتسابقين الأربعة، ومجموعاتهم الاستشارية، وبدأ الحديث بالقول:أعلم أنكم جميعًا شغوفون بمعرفة من يقع عليه الاختيار لتولي هذا المنصب المهم، وأن أكثركم تعجَّبَ للاختبار الذي أجريتُه، حتى ظن بعضكم أنه كان أجدر باجتيازه من هؤلاء الأربعة؛ بل وربما اتَّهمني في باطنه بما لا أحبُّ ذِكرَه، ولكن عما قليل سيتبين لكم ما أردته.
والآن، أين رجالي الذين ضممتهم إلى كل مجموعة؟
خرج أربعة رجال من جانب في قاعة العرش، وقالوا: الأمر لمولانا الملك.
قال الملك: ليخبرْنا كلٌّ منكم بما رآه وشاهده منذ ألحقتُه بإحدى المجموعات المتسابقة.
فتقدم أحدهم، وكان الذي ألحقه الملك بمجموعة المتسابق الأول الذي خسر، فحكى ما حصل كما أسلفناه، وهكذا فعل الثاني الذي التحق بمجموعة المتسابق الثاني الذي خسر أيضًا.
ثم تقدم الثالث وقال: أنا كنت مع المتسابق الثالث الذي استطاع أن يعبر الجسر بنجاح، وهذا المتسابق عندما عاد إلى مجموعته أخبرهم إجمالاً - لا تفصيلاً - بطبيعة المسابقة، فلما أرادوا أن يستوضحوه عنها جيدًا، أشاح عنهم بوجهه في غضب كأنه لا يريد إزعاجًا، ثم استلقى على سريره في هيئة المفكِّر، ولما أرادتْ مجموعته أن تراجعه في سبب انصرافه عنهم، ألقى بالغطاء على رأسه ونام حتى الصباح، وفي الطريق إلى مكان الاختبار لم يتحدث معهم، وكان يطالبهم بالصمت إذا تحدثوا؛ حتى لا يفسدوا عليه تركيزه، ولا يقطعوا عليه حبل أفكاره.
وأما مجموعته يا مولاي، فمنذ تركهم دون أن يُفهِمَهم شيئًا، وهم لا يَكفُّون عن همهمات غاضبة، لم أستطع أن أتبين منها شيئًا؛ بل أكاد أجزم يا مولاي أن هذه الهمهمات الغاضبة استمرتْ، حتى بعد فوز سيدي في المسابقة، وعبوره الجسر بنجاح.
الملك: شكرًا لك.
ثم تقدم آخرهم وقال: أما أنا، فكنت مع المتسابق الرابع، وما أن عاد هذا المتسابق إلى مجموعته، حتى حكى لهم تفصيلاً ما جرى مع الملك، ثم طلب من كل واحد في مجموعته أن يجلس منفردًا ساعة؛ ليفكر كيف يصنع لو كان مكانه هو، ثم جمعهم بعد ساعة، وراح يستمع لكل منهم، ويناقشه، ويجعل أصحابه يناقشونه فيما قاله، وهكذا قضوا وقتًا طويلاً، حتى إن أحدهم قال له مُتبرمًا: أكل هذا الوقت نقضيه في التفكير لاختبار سهل كهذا؟!
فردَّ عليه سيدي المتسابق الرابع بقوله: إن الاستهانة باختبار هي أولى خطوات الفشل في تجاوزه، ثم إن هذا اليوم له ما بعده، وهل تحسب أن الملك يجري هذا الاختبار؛ ليرى فقط من يعبر الجسر؟ إني لأحسبُ أن الأمر أكبر من ذلك، خاصة وأن ما نعلمه عن الملك أنه صاحب حكمة وفطنة، وأنا أحب لك أن تشاركنا التعب؛ لتشاركنا الثمرة، فإن أبَيتَ فدونكَ السريرَ والراحة، فنلْ منهما ما شئتَ ولا حرج عليك.
فإذا بالرجل يا مولاي يتحمس مرة أخرى للحوار والمناقشة برضا وسرور قائلاً: بل أشارككم، وأرجو أن تسامحني يا سيدي.
فقال له المتسابق الرابع: أحسنتَ، ولو لم تفعل لطلبتُ منك مفارقتنا، فإن الذي لا يصبر معنا ونحن ما زلنا في سَعة، أحرى ألا يصبر معنا إذا أصابنا أذًى أو ضيقٌ.
ثم أكملوا مناقشاتهم يا مولاي، وبعدها ناموا إلى الصباح، وحين استيقظوا قال لهم سيدي المتسابق الرابع: هل بدا لأحدكم شيء جديد من الرأي؟ فقال أحدهم: لي ملحوظة، فاستَمَعَها منه، ثم قال حين خرجوا من المنزل: الآن لا أريد أن أسمع شيئًا من أحدكم بخصوص الاختبار، استمتعوا بجمال الطبيعة حتى نصل إلى مكان الاختبار.
وهكذا يا مولاي مشى أصحابُه فرحين معه، وعندما عبر سيدهم الجسر، شعروا بالسعادة وكأنهم هم الذين عبروا الجسر.
قال الملك: شكرًا لك.
ثم توجَّه الملك بحديثه إلى الملأ من حوله قائلاً: فمن ترشحون الآن لمنصب النائب؟
ضجَّت القاعة بكلام لا يكاد يُفهم، ما بين من يقول: المتسابق الثالث، ومن يقول: الرابع، ولم يلبث الملك أن أمر الجميع بالصمت، ثم قال: الذين يرشحون الثالث يرفعون أيديَهم، فرفعوها، فأمر الملك بِعَدِّها، فإذا هم خمسة عشر، ثم قال: والذين يرشحون المتسابق الرابع يرفعون أيديهم، فرفعوها، فإذا هم خمسة عشر.
وكان قد بقي خمسة لم يرفعوا أيديهم، لا في اختيار الثالث ولا الرابع، فقال الملك: وأنتم ألا تختارون بينهما؟
فقال واحد من هؤلاء الخمسة: إننا متحيرون يا مولاي، وإذا شئت يا مولاي فصلتَ بينهما برأيك، فترجح أحدهما على الآخر، فكلاهما عبر الجسر ونجح في الاختبار.
قال الملك: حسنًا؛ بل أنتم من يرجح بينهما.
تعجب الحاضرون من قول الملك، ولكن قبل أن يقول أحدهم شيئًا، قال لهم الملك: سأسألكم أسئلة، فأجيبوني عليها.
فقال أحد الخمسة: سمعًا وطاعة يا مولاي، سَلْ نُجِبْك.قال الملك: لماذا خسر الأول والثاني؟فقال أحد الخمسة: لأنهما لم يستطيعا حفظ توازنهما.وقال آخر منهم: بل لأن كليهما جعل نفسه ألعوبة بين آراء أصحابه ما بين اليمين واليسار، والأمام والخلف؛ ظنًّا منهما أن التردد بين الرأيين، والعمل بكلا الكلامين يضبط رؤيته، ويُسلِّم خطواته، فيظفران بالفوز.فقال بقية الخمسة معجبين بهذا الاستنتاج: نعم هو ذاك، نعم هو ذاك.
فقال الملك: ولماذا ربح الثالث؟فقال صاحب الاستنتاج السابق: لأنه اجتهد رأيه، وحزم أمره، ووثق بنفسه.وقال غيره: بل قل: استبدَّ برأيه، ولم يَرقُب قولاً من ناصحٍ ولا مشير، وإني من فوزه لمتعجب محتار.وقال آخر: لعل الحظ حالفه يا مولاي.وقال آخر: أرى أنه كان يعلم أن أحسن رأي من أصحابه كان أقلَّ من رأيه لنفسه، فاستصغرهم واستهان بشأنهم، وهذا لا يَعيبُه بنظري؛ غير أني لم أفهم ولا أدري إذا كان لا يرى فيهم نفعًا، فلماذا أحضرهم معه؟
ثم قال الملك: فلماذا ربح الرابع؟قال أحدهم: وكيف لا يفوز يا مولاي، وقد اجتهد رأيه ورأي أصحابه، ثم حزم أمره، فكان واضح المسلك من البداية إلى النهاية؟! فحريٌّ به أن يفوز.فقال له الملك: فإن كان الأمر كما تقول، فلِمَ لم ترفع يدك لاختياره؟!فقال الرجل: لأني ظننت أن الربح جعله يستوي مع الثالث، فأكون قد ظلمت الثالث.فقال الملك له مرة أخرى: هبْ أن هناك شجرة قد حطَّت عليها عشراتُ العصافير، ومرَّ شاب أمامها، فأمسك بحجر فضرب به، فإذا به قد اصطاد عصفورًا، فأخذه وانصرف، ثم مرَّ شاب آخر أمام الشجرة، فرأى العصافير أقلَّ، فراح يراقب حركة العصافير، ثم التقط حجرًا، واتخذ لنفسه موضعًا حسنًا، ثم رمى بحجره يريد عصفورًا من الشجرة، فسقط العصفور، فأخذه وانصرف، أكنت تساوي الأول بالثاني؟فقال الرجل: لا يا مولاي.فقال الملك: فلو شئتَ أن تستأجر أحدهما لصيد العصافير، أكنت تختار الأول أم الثاني؟فقال الرجل: بل الثاني بلا ريب يا مولاي.
فقال الملك: ألا تشعر أنك قد ظلمتَ الأول؟فقال الرجل: بل أحسبني أكون غبيًّا يا مولاي لو اخترتُ الأول.قال الملك: ولِمَ؟ أولم تكن النتيجة واحدة، وكلاهما ربح عصفورًا؟قال الرجل: ولكن الأول قد يصيب مرة ويخطئ عشرة؛ لأنها جاءت على غير تدبير، وأما الثاني فإنه لما صوَّب على هدف واحد، أصابه، ولو شاء لأصاب بقية الأهداف.ثم وجَّه الملك كلامه لبقية الخمسة، فقال: فما رأيكم فيما يقول؟فقالوا جميعًا: كلامه حق وصدق يا مولانا الملك.
قال الملك: فهل يغيِّر أحدُكم رأيه، ويخرج عن حياده للاختيار بين المتسابقين الثالث والرابع؟فرفع ثلاثة منهم بصوت واحد: نختار الرابع يا مولانا الملك.نظر الملك إلى الاثنين المتبقيين، وقال: فما زلتما على ترددكما في الاختيار أم أنكما مع الثالث؟فقال أحدهما: أما أنا، فما زلت أرى أن الثالث له الحق في المنصب، باعتباره فائزًا في اختبار الملك.قال الملك للثاني: وأنت؟قال: أنا لا أستطيع الجزم برأي يا مولاي في أمرهما.فقال الملك للثاني: فإن علمتَ أني ما أجريت هذا الاختبار، إلا لأعلم طريقة تفكيرهم واتخاذهم القرار، وإلا لكان أي فرد في مملكتي خليقًا بالمنصب المنشود.
فقال الرجل: وماذا تصنع بالفائز الثالث يا مولاي؟قال الملك: إن المشكلة أن الناس دائمًا يستعجلون الأمور، ويهتمون بظواهرها، دون التعمق إلى أسرارها وجوهرها، إن النظر إلى المثال الذي ضربتُه لكم للشابَّينِ والشجرة كفيلٌ أن يخبرك أن من يستأجر الشاب الأول، كان سرعان ما سينبذه ويطرده، علمًا بأنه ربح عصفورًا حين سدد قذيفته.
أما الشاب الثاني الذي فكَّر وخطط ودبر، فلو لم يكن اصطاد عصفورًا في الضربة الأولى، لكان حريًّا بذي العقل أن يختاره؛ لأنه حدَّد هدفه وعَمِل له، فإن لم يصبه في المرة الأولى، فهو جدير أن يصيبه في الثانية، ولعله بعد ذلك أن يضاعف مهارته، فتتكاثر أرباحه مع الأيام، هل فهمتني؟
أما الفائز الثالث، فنرضيه على قدر مجهوده، فلكل مجتهد نصيب، واعلم أن الحكيم لو انصاع لأحكام الناس ورأيهم في جلائل الأمور، ما صار حكيمًا.قال الرجل: قد زال الشك عندي يا مولاي، وإني أختار الرابع.
قال الملك: وكأني كلما تحدثت مع أحدكم قليلاً مال إلى الرابع، أفلا أكون إن وافقتكم على الرابع، أكون قد اخترت ما يتفق مع رأيكم وحُكمكم؟ لِمَ لا يكون غيره؟
شعر الجميع أن الملك يبدو وكأنه كان يسير بهم في اتجاه، ثم سيأخذ بعد ذلك اتجاهًا آخر، فظهرت على الوجوه الحيرة والشعور بعدم الفهم.أحس الملك بذلك فابتسم، ثم ضحك ببطء، ففهم الجميع أن الملك كان يريد أن يمازحهم بعد هذا الوقت الطويل من الجدل والنقاش، والأخذ والرد، فضجت القاعة بالضحك، ثم قال الملك: تستطيعون الآن تهنئة الفائز.
ثم صمت الملك، وبدا كأنه قرر أخيرًا تعديل رأيه، لكن الملك قال: الرابع.فضحك الجميع، وقاموا مهنئين نائب الملك الجديد.
ثم قاطع الملك الجميع بصوت مرتفع: وأيضًا هنِّئوا الفائز الثالث لاجتيازه الاختبار؛ فقد عينتُه أميرًا لإحدى إماراتنا.
فما رايكم في راي الملك بتعيينه اميرا لاحدي الامارات
محمودعاطف- عدد المساهمات : 117
تاريخ التسجيل : 03/02/2010
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى